Al Jazirah NewsPaper Thursday  22/07/2010 G Issue 13811
الخميس 10 شعبان 1431   العدد  13811
 
« تعذْبلْ من الشيطان واترك جبال دوسْ»
عبد القادر بن عبد الحي كمال

 

هجّرني الموت يا صاحبي، دكّ دعائم منزلي، وشتّت شمل عائلتي. أذاقني مرارة اليُتْم صغيراً وحُرقة الغُربة طفلاً وحزناً استكنّ في الشُغاف. مرّت السّنون أحسبها سبعين، ولم تختف المرارة ويتلاش الإحساس بالغُربة واضطهاد القريب .. تسألني اليوم بَعْد أن وهن العظم: ألا تزال أيّها العود تتألّم؟ آه وآه يا صاحبي وددتُ – علم الله – أن هذه الحُرقة تبدّدت، والدمعة التي تترقْرق قد جفّتْ..

وهذه المرارة لم تعد تلسع لهاتي. كيف أستطيع أن أهرب من ذكرياتي؟ تجمّدت أمامها سنوات عمري، فإذا خلوت لا أصبو كما قال الشّاعر ولكنّني إذا خلوت أدركتني غصّة، وترقْرقت دمعة، وطفرتْ آهة، وندتّ أنّة وأنّة.. كنت طفلاً صغيراً في عائلة سعيدة، أبٌ يكدح وأمٌّ تحنو، وحبٌّ يغمر البيت بنوره، في قرية صغيرة جميلة وادعة من قُرى السّروات، قرية عانقتْ النّجوم، وتلفّعتْ بالغيوم، نسيمها عذب، وبيئتها حب، ولُحمتها تواصل، ونفوس أهلها نقيّة.. اختفتْ قريتي من الخارطة ولم يعد لها وجود إلاّ في ذاكرة كبار السّن، قريتي هي الظّفير التي كادت قاعدة إمارة غامد وزهران في الخمسينات وبداية الستّينيات من القرن الماضي. أدرك الموت عماد أسرتي، حملتْ والدتي إلى الّلحد في تلك القرية الجميلة الآسرة. وعدتُ عوادي الموت على أسرتي الصغيرة وأنا بعد طفل، لم أعد أعي يا صاحبي من ملامح والدتي شيئاً ويا حسرتي حتى بصيص من الملامح افتقدتها، أذكر مرّة عندما صرخْتُ في الليل فزعاً فهرعتْ إليّ – رحمها الله – مذعورة تحتضنني وتُبدّد بحنانها خوفي وتمسح بلهفتها رعدتي، هذا ما بقي لي عنها من ذكريات وهي جد قليلة أي والله جد قليلة، لم تعدْ لي يا صاحبي أي ذكريات أتخيّل بها أعز إنسانة عليّ، وكأنّ اليُتم قد أحاط بي وجوداً وذكرياتْ.

مضت الأيام بعد وفاتها - رحمها الله - ونحن صبية صغار يتثاغون، ولا بدّ للبيت من مدبّرة، ولا بدّ للمنزل من ربّة، ولا بدّ لزُغْب الحواصل من إمرأة ترعى وتحدب، فتزوّج والدي – رحمه الله – وكأني وأنا في الخامسة من عمري لم أتقبل الأم الجديدة، ولم أتفهّم حاجة الرجل إلى زوجة والبيت إلى ربّة، فكان لزاماً أن أرحل عن أبي وإخوتي وقريتي ومدرجي وأترابي، فنزحتُ إلى الطائف، بيئة جديدة وثقافة مختلفة، ولهجة تختلف عماّ ألفتُ وتعوّدتُ، وأترابُ لا يُحتملون. تحمّلتُ كثيراً سخريتهم من لهجتي: «هوّي ياخي يخْشعْك الله» وثقافتي ونمط حياتي، وهذه تفاصيلها كثيرة، فلكلِ أسلوب حياة، فكان ذلك حزناً آخر، أذكر موقفاً محزناً عندما أتّفق زملائي في الدراسة على السُخرية، جاءني أحدهم بلطف ورقّة أن انضمّ إليهم في الفسحة الكبيرة، كانوا أربعة وأنا خامسهم، فرحتُ بدعوة المشاركة، اقترح أحدهم أن يغنّي كلُ واحد بما يُتقنه لتجربة أصواتنا، رفع أوّلنا صوته بأهزوجة، ثم طُلب منّي فتردّدت وأمام إلحاحهمْ انبريْت أغنّي: «تعذْبلْ من الشّيطان واتْرك جبال دوسْ» وكأني نطقتُ هجراًَ أو صرّحتُ كفراً، استغرقوا ضاحكين وانكفأتُ حزيناً وأصبحتُ أُدعى بينهم «عذْبل». أنت تعرف يا صاحبي أنّ الحوقلة قولنا. لا حول ولا قوّة إلاّ بالله وأن العذبلة قولنا: أعود بالله من الشيطان الرجيم .. ولكن ماذا أقول لرفقة استعذبت السّخرية من غريب .. المواقف يا صاحبي كثيرة والأحزان جمّة وعفا الله عماّ سلف.

لا شك أني بعد لأْيٍ تأقلمتُ، بعد مرارات وغصّة، ولكل غصّة قصّة، مدادها إرثٌ من تجارب قاسية، أتراني الآن وقد تدلْبح ظهري، واشتعل بالشّيب رأسي أنسى كل هذه الذكريات، ليتني أستطيع فلا تزال الأهزوجة التي كان زملائي في المدرسة يشيّعونني بها تطرق سمعي: « يا حجازي ديكي على ديكك .. الخ.

ولو كان «شخصاً» واحداً لكفحته ولكنه شخص وثانٍ وثالث» وربما قد يكون عاشراً. رحم الله من مات ونحن على الدرب سائرون.

والإنسان – حتى ولو كان صغيراً – ليس قطعة أثاث تنقل من مكان لآخر، فالطفل له إحساسه وشعوره، ولابد أن نحفل بهذه المشاعر والأحاسيس، ونحترمها بحسن التعامل معها تربوياً.

خلاصة التجربة أن النقلة الفجائية من بيئة لبيئة دون تمهيد تورث صدمة لا يحتملها الطفل، كما أن متابعة النشء في البيئة الجديدة عامل مهم في تخفيف ما قد يواجههم من شعور بالغربة أو التجاهل والإبعاد .. وعلى التربويين في المدارس مراعاة هذا الجانب بالتعاون مع الأسر، وحبّذا لو عُقدتْ جلسات تعريف مع زملاء الدراسة من الطلبة والمدرسين لإرساء قاعدة تواصل جيّد بينهم. وأحسب أنها من القواعد التربوية المهمة. فطفل اليوم هو مواطن الغد الذي نعوّل عليه كثيراً في مسيرة التنمية. وهذا يعكس اهتمامنا بالنشء تربية وتعليماً وتثقيفاً وإعداداً لمستقبل يحمل آفاقاً ومتغيّرات جديدة وتحديات غير متوقّعة.







 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد