Al Jazirah NewsPaper Thursday  22/07/2010 G Issue 13811
الخميس 10 شعبان 1431   العدد  13811
 

استراحة داخل صومعة الفكر
الأفق نافذتي (يحيى السماوي)
سعد البواردي

 

ديوان بهذا الحجم من الصفحات يسلمني إلى حيرة بلهاء.. أيها أختار.. وأيها أتجاوز وفق ما تسمح به المساحة المتاحة للاستراحة، وإذا لم يكن من الاختيار فمن العدل أن لا أعذل.

شاعرنا اقتنع من الكثير بالقليل.. ولكن ما قلّ.. ودلَّ.. لنستمع إليه:

أنا أرضى بالذي قلَّ ودلَّ

خيمة في وطني دون وجل

خيمة أغسل باللثم بها

يد أمي كلما الصبح أطل

ورغيف دافئ تخبزه

«أم شيماء» وكوز من وشل

وحصيم ينبض الخوص به

عبق الأغوار فوحاً وظلل

حلمه بالعودة إلى وطنه.. إلى العراق الغارق في أحزانه.. إلى حيث عاش صبياً.. وفتيا لا يعرف للحروب ولا للخراب وجهاً ولا صدى.. ويرنم لنا آياته على وقع حسراته:

مَن تُسمعين؟! جميعهم أموات

أيصيخ سمعا للجهاد رفات؟!

من تُسمعين! وهل تعيد لجيفة

نبضاً وكِبَر كرامة أصوات؟!

أم أنتِ صدقت الخطابات التي

فقدت معانيها بها الكلمات؟!

عرب إذا نطقوا وإن فعلوا فما

لهمو سوى خبث اليهود سمات

تشخيص لحالة مَرَضية غير مُرضية يعانيها عالمنا العربي في ظل العجز.. والتناحر.. وفقدان الذاكرة التاريخية..

السماوي عشق ديار ليلى قبل ليلى التي نعرفها.. ليلى نهار.. وليلى ليل..

دعيني من أماسيك العِذاب

فما ألقى التغرب من شبابي!

قلبت موائدي ورمحت كأسي

وشيعت الهوى وربحت بالي

خبرت لذائذ الدنيا فكانت

أمرّ عليَّ من سُمّ وصاب

وجدتُ حلاوة الإيمان أشهى

وأبقى من لماكِ ومن إهابي

للجسد ظمأٌ مرّ.. وللروح ظمأٌ أكثر مرارة.. هذا ما عبّر عنه.

ظمئي.. واللهيبُ هَمي

فما يحسو سوى ضَرَم

يفتش في صحارى العشق

عن مُستعذب شبم

وفانوس ينش به

ثمار طريقه العتم

يقوِّس ظهره تعب

يشدّ يدا إلى قدم

ينام على ندى أمل

فيوقظه لظى ألم

حين تظمأ الروح لا يبلّ عطشها كل ينابيع وجداول وأنهار وبحيرات الدنيا.. لأنه عطش أسمى وأقوى من عطش الجسد..

«نسيب» عنوان مناسب لفكرة مناسبة من تمثل حسرة الغرابة.. وحيرة الضياع..

ظامٍ وكوثره النسيب

أيبلُّ ظمأنا لهيب؟!

يحدو بهودجه الضياع

ولا عشير أو حبيب

غفت البدور وأيقظت

شتى من العَثَر الدروب

متشابهان بمقلتين!

طلوع شمس والمغيب

جهام الظلام أعتى منه وأشد وحشية جهام الظلم..

«آمنت بالنار» عنوان لاهب يتطاير شرراً أهداه شاعرنا إلى روح الشهيد شادي توباس:

مسافرٌ عبر الدنيا ولم يجب

إلا مسافة أجفان من اللهب

صلّى وسلَّ يقين العزم يشحذه

جمر من الثأر في ريح من الغضب

تماثلا عنده في ظل نخوته

تاج من الجلد أو نفل من الذهب

رأى الحياة موات فاستخار ردى

حيا حياة رفيف الضوء في الشّهب

هكذا يبدو مشهد النداء أقوى من هزيمة الحياة.. وضعف إرادتها.. لأنها الحياة نفسها دون إحساس بالعجز في مقاومة الاحتلال.. الجاثم على الأنفاس.. اطلب الموت توهب لك الحياة.

«أهلوك أهلي يا ديار» إحدى نوافذ أفقه الشعرية.

ختم الذهول فمي وشلّ صوابي

لما نزلت الحيّ بعد غياب

لعب الهيام بمعزفي فتناغمت

قبل اللقاء ولوعة التغراب

فمن سأبتدئ العناق مقبِّلا

أحداقَه وجميعهم أحبابي

وبأي دار أستريح.. وكلها

فاءت علي بأعذب الأطياب

أنا أقول بأي دار؟ إنها الدار التي أحبها شاعرنا القديم وقال عنها:

أحنّ إلى الديار ديار سلمى

أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

يروي لنا شاعرنا الإبداعي يحيى السماوي حكايته.. وقد تطلع إلى مرآة صورته كبدوي عاشق:

يشقيكِ يا ليلاي ما يشقيني

منفاي دونكِ والمشانق دوني

بتنا وقد غرّبتُ مذبوح الخطى

مجنونة تصبو إلى مجنون

مترقبين بشارة النخل الذي

أضحى سقيم السعب والعرجون

نخفي إذا اصطخب الضحى آهاتنا

فتنزّ جمرا في ظلام سكون

«ليالينا عقيمات. ولكن!» عنوان لا يخلو من شكوى.

تأملني طويلاً.. ثم قال:

أظنك تشتكي داء عضالا

شحوبٌ وارتجافُ يد وخطر

لثقل همومه إن سار مالا

دواؤك في العراق فإن تحامى

من الزحف الوشيك حسنت حالا

ولستَ بذي خيول ضامرات

تصدّ بها عن الوطن الوبالا!

«كن لأحطابي لهيبا» إنه ينشد الاحتراق في نار الأشواق دون أن يخاف.. الحب الدافئ لا يرد رعشة الخريف: إنه الحب لأقرب الناس إلى قلبه.

ولدي أنتَ.. وإن كنتَ أبا

وأنا لا زلت في وهج الصبا

حدثتني عنكَ عيناكَ وقد

تفضح العين فؤادا وحبا

سرك المفضوح أغوى زينتي

ومداياي.. وقنديلا خبا

وفماً لما تزل روضته

باكر الورد ضحوكا ذربا

هذه المرة يريد مَن يمسّ عليه.. بماذا؟ ولماذا؟ القول قول جهينة وعنده الخبر اليقين..

هل غير مائك يا فرات نمير

يعفى به واهٍ. وتُعشِبُ بور

أزجي السلام إلى نخيلك صابرا

وقد استبد بأهله مسعور

للنائمين على الطوى لما كبا

صبح فغادر خبزه التنور

للطفولة شدت لصحن شحاذة

وكهولة فيها الإباء كسير

الحلم أقوى من أن يناله قنوط ولا يأس.. الفرات.. ودجلة.. والنخيل.. وجسر الرصافة.. ومقاهي أبي نواس.. وشارع الرشيد.. وعراق التاريخ لن يظل أسيراً كثيراً.. سيعود معافى كما كان.. وستعود إليه.. وكل من في الاغتراب من أهله.. لكل ظالم نهاية.

«شراك» يذكرني بقوارب الصيد على ضفاف دجلة.. والشباك تلقى لتلقف ما سمح به النصيب.. حتى شراك الحب لها نصيب آخر..

يا ناصبا لي صوته شركا

واصل حديثك طاب لي شبكا

هاتفتني فهفت مطرزة

بالورد روح خرزتْ حسكا

أشمس بوجهك غربتي فلقد

أضحت صباحاتي بها حلكا

رقصت لصوتك مقلتي طربا

لكنما قلبي المشوق بكا

طرب.. وبكاء.. هكذا الوجدان بين انفعالين متقاطعين أمام مشهد واحد.. وهذا ما عبر عنه شاعرنا العظيم حين قال :

أبكي وأضحك لا حزنا ولا فرحا

كعاشق خط سطراً للهوى ومحا

إنها حالتك.. وحالة من يكتوي بحرارة الشوق.. ومرارة الشوك..

«توغل» مقطوعة ذات نكهة حداثية أبياتها تقول:

توغلت في داخلي باحثاً عن رماد السنين

عن السر في عثراتي

وجدت من الشك دغلا كثيراً

وشوكا يغرز ورد اليقين

رأيت شمالي لهيباً يحاصر عشب اليمين

فكنت الطليق السجين

جميل أن نتوغل في دواخلنا من خلال مرآة صادقة وعاكسة نرى فيها أنفسنا وحقيقتنا دون طلاء، أو ماكياج.. نشهد فيها الحس فنطلب منه المزيد.. ونرى فيها القبح فنسعى إلى تحسينه.. المهم أن لا يستفزنا الغضب فنهشم المرآة نكاية في الدمامة.

بعيداً توغلت في كهف ذاتي

أفتش عما أضعت!.. ذهلتْ

وجدت رفاتي يعيب علي حياتي

وليلاي تبرأ من صبواتي..

إذن.. هاتني برهة منك

لأغسل عتمة روحي بضوء الصلاة.

حسنا فعلت..

شاعرنا السماوي له وطنان لا واحد.. وطن طين.. ووطن رغبة.. وله قبران قبر قلب.. وقبر جسد.. عن الوطنين يقول:

لي وطنان الأول من طين الدهشة

يمتدّ كما حبل السرة.

يربط بين نخيل البصرة وبساتين التين بكردستان

ينضح عشبا وحبوراً.. وأمان

الوطن الثاني من ورق الرغبة

أغرس فيه زهور العشق

فتنبت شعراً ومناديل حرير

وأنا ما بينهما طير أغانٍ

وله قبران:

لي قبران الأول في قلبي

حيث دفنت بلاداً كانت يوماً ضاحكة الشطآن

القبر الثاني جسد لا يعرف أين تقيم الروح الآن

وأنا ما بينهما تابوت يتمشى

صرخة صمت تطلقها في كهف المنفى حنجرة النسيان

ويبقى في النهاية وطن واحد لا يعوض.. وقبر واحد لا خشية عليه من الضياع.. ما بين الوطنين والقبرين حركة امتداد ما تلبث أن تتحول إلى حركة ارتداء.

أخيراً مع شاعر الاغتراب الإبداعي يحيى السماوي في آخر مقطوعاته «حطام» وفي ختام ديوانه الثري بعنوان «الأفق نافذتي»:

معتمراً خوفي

أجوب المدن الصخرية الأشجار

أخفي عن الجفاف في عينيّ ما في القلب من أمطار

أنسل من تحت حطامي.

قمري الطيني في حقيبتي..

وفي يدي عكازة عمياء

أبحث في برية الغربة عن مدينة لا يهزم الضياء فيها

ولا يهرب فيها النجم مذعوراً من المساء

أنفخ في رماد أمسي. فلعل جمرة تعيد للوجاق

مبخرة الطفء التي أطفأها الفراق..

عن خيمتي.. وناقتي.. وعن دِلال قهوتي

ورقصة الفنجان في ملاعب الأحداق

في وطن كان يسمى جنة الأرض.. أو العراق

بهذه الرحلة السياحية من الاغتراب يومي بحلم الاقتراب من وطن ضاق بأهله مُرغماً لا بطلا.. وما ضاق به أهله حلماً. وأملاً..

هكذا.. وبهذا الشوق المحموم قطع شاعرنا مرحلة عذابه وعذوبته دون أن يجف له قلم.

ودون أن يخف في دواخله ألم.. حنينه أمضى من أنينه.. وكلاهما صوت نماء.. وانتماء لا يخبو.. ولا يلوذ إلى صمت..

الرياض ص ب 231185

الرمز 11321 _ فاكس 2053338

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد