إذا أردنا - بجدية - أن نستدرك ما فاتنا، وأن نلحق بالركب ونسبقه بطموح علمي عملي، فعلينا ألا نكتفي بإنجازات إعلامية، وبعد فترة قد تكون وجيزة - لا نجد لما تحدثت عنه أو معظمه وجوداً راسخا على أرض الواقع، ولا نرى سوى
هياكل مسميات وشكليات بدون ثمرة فعليات تنوب عن الكلام في الإعلام أو تسنده.
ولا مجال للتشكيك في حقيقة الملموس على أرض الواقع والطوب لا يبني إلا على طوب حتى يكتمل البناء قوي الأسس. وهو لا ُيبنى على صيغ الأساليب والأطروحات ومختلف العناوين واللافتات في لغة الكلام بأي كلام كان.
قول بلا عمل - قيل عنه - كشجر بلا ثمر، وليس الخطأ والخطر في التأخر، فذلك قد يمحي وإنما الخطأ المحفور في عدم البدء وعدم الجدية في السير الحثيث المتقن، وتعويض ما فات.
القوى العاملة والأيادي الصانعة لا يُكتفى في إعدادها بالتدريب وإنما يأتي قبله التعليم، وعلى كيفية منتشرة عامة وذلك في ظل إخلاص مع علم، وفي ظلال توجيه رصيد موجود بجلاء في الدين. {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (60) سورة الأنفال.
أ - إعداد تام، ب - قوة لفظها يعبر عنها ج - بكل استطاعة إلى أقصى حدود الإمكان.
أي التعليم التطبيقي العملي العلمي، تعليم (الورش) التقنية والمهنية والحرفية الآلية واليدوية، مع رفع منزلتها في المجتمع بشتى السبل والوسائل، وبذلك تكون الياقات الزرقاء هي المفخرة والعز.
الصناعة ثم الزراعة يقاس رقي الأمم بمدى رقيها فيها، ثم تزين بالثقافة والآداب لمكملات للحضارة والرقي والازدهار، ولا قيمة تذكر لثقافة الكسالى والمتبلدين والعالة على العالم بلا عذر معذور.
وتعليل الإرهاب في الآية يختلف عن مفهومه الحديث عند من يعارضه ويمارسه، الإرهاب في القرآن للردع والوقاية والحماية، ونصرة الضعيف أمام وحشية الظالم فهو علاج للأمراض ووسائل الإرهاب ليست كلها عسكرية حربية، إذ قد تكون علمية صناعية مدنية تقنية أو إرهاب المظلوم لردع من بدأ بالهجوم.
أما العلوم النظرية في التربية والتعليم وتكفي كلمة التربية عن التعليم فهي مغطية لكامل معناها دون حاجة للإطالة المكرورة بكثرة
فلهذه العلوم النظرية مكانها التالي لما سبقها في الأهمية دون توسع شاطح، وإهدار وقت فيما لا يحتاجه الفرد لنفسه، مما قد يسبب ضياع ما هو أهم منه، وليس المجتمع في حاجة إلى تعليمه كل عضو من أعضائه على نحو جمعي، فهو مندوب شاغل عن واجب.
يكفي الإنسان المسلم أن يتعلم في أمور دينه وفقهه ما يحتاج في يومه وليلته وأسبوعه وشهره وسنته، والخط ما قُرئ والباقي صنعه، كما يحتاج أكثر إلى إتقان لغته الأم لأنها هويته وشخصيته، وهي مفتاح الدين والتقنية وهي ثرية لم تُكتَشَف - مع الإهمال - ثرواتها، تعلم المدرسة الإنسان ألا نفع له في حياته، وما يدخره لما بعد مماته.
والقرآن الحكيم يقول: ?وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ?(122) سورة التوبة.
فالمطلوب لربِّنا منّا تعليم طائفة فقط لمهمة القضاء، وتدريس الإسلام، وإمامة المساجد، وليس كل الناس، بل ليس كل فرقة ما منهم، وإنما طائفة من الفرقة. هذا هو الإسلام، وجهلنا به جهل فينا يضرنا ولا يضره، إننا عندما ندخل فيه ما ليس منه إنما نسيء إليه، وإلى اتِّباعنا له وإلى نشر صورته الحقيقية بين الأمم.
وإن أول مستلزمات التنمية والتطوير وضع (الشخص المناسب في المكان المناسب) لكيلا يوسّد الأمر إلى غير أهله، ولكي نعطي العيش لخبازه لنضمن عدم إحراقه أو إهماله وسوء إسْوائه.
ولا يكفي المرء النجاح الاجتماعي والعلاقات العامة والمؤثرات الجانبية عن عُرى: التخصص، الخبرة، الإخلاص والنزاهة لتحقيق عمل متكامل فائق الجودة، وإذا أحسن الانتقاء وصلح راعي التعليم أو الصحة أو الزراعة أو الصناعة وغيرها صلحت رعيته التي تحث إدارته الجيدة المتفوقة والنقية، وبذلك يرتاح المسؤول الأكبر المخلص إذا وفق في انتقاء رواد وقادة العمل يرتاح نفسياً وإيمانياً. ويوفر الكثير من تكثيف الجهود في مكافحة ومحاربة الفساد بكل أحجامه وأنواعه.
قل لنا مَن الرجال الذين تنتقيهم للمهمات؟ وعلى أي أسس؟ نقول لك سلفا عن نتائج أعمالهم ونجاح إنجازاتهم، وتفوق وعظمة حسن اختيارك لهم، حيث ترتفع الأخيار وتوضع الأشرار، اليد الواحدة لا تصفق لكن من ينتقي رجاله من أمثال: الرجاء بن حيوه، سيكسب أجره وأجر من يعمل تحت إمرته، وبهذا يكون الفائز الأول مع الفائزين.
ومع تقدير الناجح المتفوق لابد من التفكير في كيفية الاستفادة منه. فمثلاً.. إذا كان الطبيب مبرِّزاً في حقل من حقوله، فلا يعني ذلك نجاحه في الإدارة الطبية، لأن تلك تستلزم موهبة أخرى يتطلب التأكد من وجودها، ولا يعنى أنها موجودة لديه بوجود موهبة قدرات طبية لديه، ولربما تكليفه بالإدارة صار خسارة لمجال تخصصه الذي حُرم من جزء كبير من وقته. بينما في الإدارة قد يوجد لها مثله أو من يفضله فيها. وقد لا يوجد من يفضله في نبوغه بفنه الذي أبدع فيه.
وخير دعم ومكافأة لمثل هذا الطبيب مضاعفة راتبه وإعطائه وفريقه مكافآت جزلة ومنح سخية، وإيجاد أقسام كبيرة أو مستشفى خاص بتخصصه، ويكون فيه طبيب أول بمرتبة وزير أو ما يقاربها. لكن يظل أنه ليس كل مهندس طرق -مثلاً- يصلح أن يكون مهندس عمارات، وكأنه يصلح بامتياز في كل مكان يحل به.
ثم إن الاهتمام بحاجات الناس كل الناس الغالبة في تعليمهم وصحتهم ككل أهم بكثير من التركيز على إفراديات عالية التفوق، لكنها لا تمثل شأناً جماهيرياً تعاني منه الأكثرية العريضة. نعم.. قد تُظهر نجاحاً إعلامياً باهراً لكن على ألا يكون على حساب الاحتياجات العديدة للجميع، ولا مانع من الجمع بين الأمرين. على أن يسبق الأهم. وقد يجر هذا النجاح الاستثنائي إعلامياً إلى طرح أسئلة عن مدى حظ مختلف شؤون هذا الحقل من العناية والاهتمام وقد يُخشى من رد الفعل والإعلام مهم.. وتزيد قيمة أهميته حسب المقاصد والغايات لكن عندما يصبح هدفا يثبط ويعطل ويموِّه ويحذِّر ويوهم، ويصوِّر للناس أنهم وصلوا أو يكاد قد تنعكس الصورة فإذا بهم يعيشون في أضغاث أحلام وأوهام لا تسمن ولا تغني من جوع، فيضحى في موضع النقمة، وقد يقول الحاضر حلو الكلام، لكن حكم لتاريخ سيقسو على أي كلام إن لم يكن صادقاً فعّالاً. سيتهم التاريخ سابقيه بتهم تقشعر منها الأبدان ويتألم الوجدان. لذا ما أجمل حديث الأعمال ليعقبها أو يسير معها الإعلام مطمئناً على سمعته وشهادته.
إصلاح أعلى السلم جميل لكنه يتطلب أيضاً إصلاح أسفله أي من أول السلم ليصعد الصاعد بثقة واطمئنان وأمان.
مثلاً.. جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية تحتاج إلى مغذ لها ولغيرها، تحتاج إلى تحويل معظم التعليم العام -قبل الجامعة- إلى تطبيقي، تقني، فإن وجدت صعوبات وعثرات لا يسهل تذليلها أو معظمها، فلنحول المؤسسة العامة للتدريب التقني إلى مؤسسة للتعليم أولاً ثم مع ذلك للتدريب، وتستقل فلا تتبع وزارة العمل الفارقة في مشكلات العمل وليس من مهماتها الإعداد له.
نعم لنتوسع في التعليم التقني الصناعي المهني، فيركز على التوسع فيه وكأنه التعليم العام في وزارة التربية، ويحد من التوسع في مدارس التعليم العام النظرية. كما تنشأ تبعاً له معاهد وكليات ومعاهد عليا وورش عمل ومعاهد ومراكز تدريب سريعة الانتشار والتعدد، قوية الأجهزة معلمين وأدوات ومنشآت. بهذه الأمور والإجراءات تنضج الطبخات على نار هادئة.
ولتصرف لهذه وللأقسام والكليات العلمية في الجامعات مكافآت جزلة للطلبة، تجعل مواد اليد الدراسية مشجعة أكثر من مواد التلقين والحفظ، وتوفر الأجهزة على نحو يؤكد بتكرار ذكره.
ولتقتصر بعثاتنا الجامعية وما بعدها على الدراسات العلمية الصناعية والتقنية، أما النظرية كالتاريخ والإعلام وأمثالهما فلا حاجة للبلد في ابتعاث من أجلها، ومع أن من أشراط الساعة كثرة الخطباء وقلة العلماء، فإننا نرى نشاطات ملحوظة لتعليم الناس الخطابة مع أنها لا تنقصنا، ولن تطور أهلنا وأرضنا والمعمورة. لنفرض أننا خطب ولا نعمل ماذا سنحقق، ولنفرض أننا نعمل ولا نخطب ما الذي ضاع علينا سوى وقت كسبناه في العمل.
إن التخرج بدون علم عملي ولا خبرة لا يؤدي إلى بناء الوطن وعمارة الأرض، بل يؤدي إلى أمراض البطالة، وأن يعيش المرء عالة.
التقنيات المتنوعة إذا أتقنها فلذات أكبادنا ستبعدنا عن مفهوم المجتمع الاستهلاكي المستورد الخامل المترهل، وتجعلنا في قائمة المجتمعات الصناعية المنتجة المصدرة التي تحظى باحترام العالم، وقبل ذلك تحترم نفسها، وتجعل لحياتها معنى.
لنُعِد النظر في رؤيتنا للأمور من حولنا.
إن بلادنا مستهدفة، وبخاصة فيما اختصت به، والبعض يظنني اقتصر على النفط، كلا أعني أولاً ما هو أهم. ولنا أصدقاء ألدّاء فهم من يعضون الأنامل، وقد يقولون في نصحهم: لا تقرِّبوا هذه النوعية المتفوقة في اختصاصاتها وإخلاصها، لأن لهذه النوعية أهدافاً سياسية! وما صدقونا في نصحهم.
طبعاً.. كلام ارتجالي غير مبني في كليته على علم وفهم ونقاء نية، وقد درجوا -في مسوح الرهبان- على وضع العصى في الدواليب -إن استمع لهم- وبذا يضمنون استمرار المستهلك المستورد سطحي التعليم لاهثاً وراء فُتاتهم، وهم يزدردون خيرات الآخرين بسرور الشامتين المحتقرين غباء من يثق بهم. عندما نحسن الظن فيما بيننا ستتعاون أيدينا لرفع البناء مع قوته وصلابته وتوفيره كل احتياجاتنا، ويكون «سمننا في دقيقنا»، ولن نتقدم ونسبق وننطلق بدون هذا.. وإن ساورنا الشك في نوايا بعضنا تركنا تسعة أعشار المباح أو المستحب خشية الوقوع في الحرام، وهذا أيضاً يدخل ضمن مفهوم سد الذرائع الممقوت حيث لا قدرة للآخذ به على التميز. والله الموفق لخير العمل وعمل الخير.
ali.aliesa@gmail.com