Al Jazirah NewsPaper Saturday  08/05/2010 G Issue 13736
السبت 24 جمادى الأول 1431   العدد  13736
 
ماذا بعد
الأزمة العالمية.. زلازل الفصول القادمة أشد!!
عبدالحميد العمري

 

يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر تتواصل فصول الأزمة المالية العالمية الراهنة في الكشف عن حقيقتها، ولمن اختلطت عليه الأوراق أُذكره أن أول إعلان صريح لبدء الأزمة كان في فبراير 2007م؛ حينما أعلنت مجموعة HSBC البريطانية عن خسائر هائلة في السوق الأمريكية، نتيجة اعترافها بخسائر فادحة في محفظتها المتعلقة بالقروض العقارية الثانوية، المرتبطة بالرهون منخفضة الملاءة (sub-prime mortgages)، تطلّبت آنذاك تدخّلاً فورياً من البنك المركزي الأوروبي بضخ نحو 170 مليار يورو في النظام المصرفي لامتصاص تلك الصدمة، والحدِّ من تأثيراتها السلبية على الأسواق، ومن ثم توالتْ الفصول المؤلمة للأزمة ولا تزال تتجدد وتتعمّق، مع أهمية الإشارة إلى أن بذورها الشيطانية كانت قد بدأت تتشكل منذ سبتمبر 2001م، أي قبل تسع سنوات من تاريخ اليوم، أدّى إلى تهيئة بيئتها الموبوءة عدّة عوامل كان أبرزها الانخفاض في معدل الفائدة في الولايات المتحدة لمدة طويلة (2001م - 2005م)، الذي وصل إلى 1 في المائة خلال الفترة من منتصف 2003م إلى منتصف 2004م، وهو ما أفضى إلى نشوء سيولة كبيرة أثرت ولو جزئياً على أسواق العقارات في الولايات المتحدة الأمريكية. وأمام محدودية قدرة التشريعات على مواكبة التطورات السريعة التي حدثت في النظام المالي، وحداثة بعض تلك التشريعات بالدرجة الثانية، تمادتْ المصارف على مزيد من عمليات التوريق (securitization)، ما أفضى لاحقاً إلى حدوث زيادة مفرطة في المشتقات (Derivatives)، خلقت بدورها نظاماً مصرفياً رمادياً (shadow banking system) لعدم وجود أسواق ثانوية للأصول التي يتم توريقها في محفظة مالية (كالرهونات العقارية)، اُستخدمتْ بإفراط لتوفير مزيد من القروض بين المصارف، زاد من تماديها التشجيع الذي وجدته من مؤسسات تقييم المخاطر، تمثل في زيادة اعتماد المصارف على بعضها في توفير التمويل بدل الاعتماد فقط على الودائع التي تخضع للتنظيم والرقابة، وعلى الكثير من المنتجات المالية المهيكلة البالغة التعقيد التي تم استحداثها بصورة واسعة خلال العقدين الأخيرين، مما أثر في النظام المالي بأكمله وخلق ارتباطاً قوياً بين المؤسسات الخاصة العاملة فيه، شهدنا جميعاً نتائجه المدمرة لاحقاً إبّان الأزمة المالية العالمية.

الأزمة بدأت من الاقتراض الجائر الذي تفوق فوائده القيم الحقيقية المضافة على الاقتصاد، تفاقم الأمر لاحقاً بتوريق القروض والاقتراض بجعلها ضمانات، واستمرّت الخديعة الكبرى حتى تجاوزت بحجمها سقف 1.3 ألف تريليون دولار، أي ما يفوق حجم الاقتصاد العالمي بأكثر من 25 ضعفاً!! حتى المقارنة بين القيم المضافة للاقتصاد والفوائد على تلك القروض أصبحت ضرباً من العبث، فلا مجال الآن للمقارنة في الأصل بين حجم الاقتصادات والديون الهائلة على سطح الكرة الأرضية. عبثاً؛ كابدت الحكومات لتدارك الكارثة عن طريق ضخ المزيد من السيولة في الأسواق عن طريق الإقراض أيضاً، وتارة أخرى عبر نقل المديونيات على كاهلها، أحدثت سياساتها تلك نوعاً من التخدير الموضعي للأسواق فانتعشت، غير أن صلب الخلل لا يزال متسرطناً في جسد الاقتصاد، ولأن مفعول (البنج الحكومي) قد بدأ في الزوال تدريجياً هاهو يستشري مرةً أخرى في الأسواق، غير أنه هذه المرة ليس عبر بنوك وشركات استثمارية ومصرفية، وليس عبر الشركات الحقيقية، إنه عبر خط الدفاع الأخير للاقتصادات والأسواق على حدٍّ سواء ممثلاً في الحكومات! إنه الوهم الكبير الذي أحاط بالعالم كالسوار على المعصم؛ أن ظنَّوا أن مزيداً من الدين بإمكانه أن يُعالج الأزمة الكأداء الأكبر في تاريخ الاقتصاد العالمي المعاصر، ولن يوقف الأزمة عن تقدّمها في هذا الصدد التجاهل القاصر عقلياً لا من الدول المقترضة ولا تلك المُقرضة! اليوم ونحن على مشارف بلوغ الديون السيادية أكثر من 32 تريليون دولار (الولايات المتحدة 12.8 تريليون دولار)، قد لا تستفيق أي من الدول المقترضة أو المُقرضة من غيبوبة الديون إلا على فصل شرس من فصول الأزمة العالمية الراهنة. الخدعة التي يرفض كلا الطرفين الاستسلام إليها خاصة (الطرف المقترض)، أن تمويل شح السيولة والعجز عن السداد لم يعد خيار (المزيد من الديون) هو الحل، بل يحمل في طيّاته مزيداً من الكوارث القادمة مستقبلاً، وأن الحل شاءت تلك الأطراف أم أبت يتمثل في الاعتراف بحالات الإفلاس، وتمكين المقترض من تملك الأصول والضمانات إن وجدت عوضاً عن مطالبته بضخ مزيد من القروض، وعدا ذلك فلا يتعدّى كونه مغامرة جديدة لن تُحمد عقباها على المُقرض في نهاية المطاف. وهنا علينا أن نتساءل؛ من هي الدول الأكثر إقراضاً، وأين يقف اقتصادنا بينها؟!

الفصول القادمة من عمر الأزمة سيكون جزء منها أشبه بطوفان عصر نوح عليه السلام، البقاء والنجاة سيكون لمن أخذ احتياطه مبكراً للتذبذبات الحادة المتوقعة في أسواق الصرف، وأسواق السلع والمعادن، وأسواق الأصول، وما سيليها من تباينات حادة أيضاً في مؤشرات الأداء الاقتصادي الحقيقي في مقدمتها معدلات النمو الحقيقي، ونسب العجوز في الميزانيات العامة، وموازين المدفوعات، ومعدلات التوظيف والبطالة، إضافةً إلى معدلات التضخم. كل هذه الأسواق والمؤشرات ستستجيب أو ستكون انعكاساً فعلياً لوقائع الاقتصادات والأسواق، ولن تنفع معها أية تدخلات من أي نوع؛ خذ على سبيل المثال حالة الاقتصاد الأمريكي المتوقع أن تصل ديونه خلال أقل من خمس سنوات إلى أكثر من 20 تريليون دولار، وفي المقابل لن يتمكن من تحقيق معدلات نمو مقبولة إلا ببقاء سعر الفائدة منخفضاً، وأن يذهب الدولار مقابل بقية العملات الرئيسة إلى مستويات أرخص مما هو قائمٌ اليوم بنسب قد لا تخطر على بال أحد! ونحن بمواجهة حالة مثل تلك، ماذا يمكن اتخاذه منذ اللحظة (هل تعلم أن دولار 1975م يعادل دولار 2010م بأكثر من 4.1 مرة)؟! هل سننتظر إلى أن يعادل دولار المستقبل خمس قيمته اليوم أو أكثر من ذلك؟! إننا نعاصر مرحلة اقتصادية كونية تتكرر بالقرون، تحمل في طيّاتها وجهاً جديداً للاقتصاد العالمي تتمزق في جانب منها عُرى اهترأت، وتتشكل في جانب آخر منه عُرى جديدة أكثر قوة، ستكون هي صاحبة زمام المبادرة في توجيه الاقتصاد العالمي لعدة عقود قادمة! نقبل بهذا أم لا نقبل، هذا أمرٌ لا يعني سنة الله في الخلق شيئاً، فهي ماضيةٌ ماضية في طريقها. القوى الاقتصادية العالمية الجديدة متعددة الأقطاب ستحل محل القوة الاقتصادية الأمريكية المنفردة، وبناءً عليه سيتواصل في المنظور الزمني حتى 2018م تقريباً ما يمر به الاقتصاد العالمي من إعادة بناء لمحددات استقراره واتجاهاته، التي سينتج عنها اقتصاد عالمي آخر يختلف كليةً عما هو قائمٌ أمامنا اليوم، يمكن الاستزادة حولها بالاطلاع على أحد أهم المؤلفات التي قدّمها المفكر الاقتصادي د. محمد العريان، في كتابه عندما تتصادم الأسواق (إستراتيجيات استثمارية في عصر التقلبات الاقتصادية العالمية).

عضو جمعية الاقتصاد السعودية


me@abdulhamid.net

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد