يحتفل العالم في الفترة من 10-5 إلى 16-5-1431هـ بالأسبوع العالمي للتحصين، مع أن التحصين ضد الأمراض لا يحتاج إلى مناسبة احتفالية، فأبناء الجيل الحاضر يعيشون معه منذ نعومة أظفارهم...
... أو على الأصح منذ إطلالتهم على الدنيا وربما قبل ذلك وهم في بطون أمهاتهم، أليس تطعيم المرأة الحامل ضد الكزاز وتطعيم الفتاة قبل سن الزواج ضد الحصبة الألمانية وقاية للطفل من الإصابة بالعدوى أو من التشوه؟ لكن الاحتفال يقام لحشد مزيد من الوعي والاهتمام بأهمية التحصين ولتأكيد نفعه وما أسداه للبشرية من فوائد صحية.
كان أول عهدنا -نحن أبناء القرن الماضي- بالتطعيم ذلك العام الذي جرّدت فيه الدولة حملة شملت طول البلاد وعرضها للتطعيم ضد الجدري وهو عام 1369-1370هـ. وكان أول نظام للتطعيم ضد الجدري قد صدر قبل ذلك بعشرين عاماً أي في عام 1349هـ، إلا أنه لم يكن ملزماً إلا لفئات محددة مثل الجنود، ولذلك لم يتقبل جميع الآباء إجراء التطعيم. وأذكر انه في عام 1370هـ اجتاح مدينة المجمعة وباء الجدري وأصابت العدوى في شارع واحد أربعة أطفال، أحدهم توفي وثان أصيب بالعمى وثالث خرج منه بآثار واضحة على الوجه ورابع خرج منه سالماً. وكنت احد الذين أصابهم الجدري. وكان السل في كثير من الأحيان فتاكاً، ومازلت أذكر ابن عم لي لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره وسيم المحيا لكن مرض السل نهش جسمه حتى صار لون وجهه الممتقع أبيض مثل الثلج قبيل وفاته. ولم تكن الحصبة ارحم من غيرها من الأمراض التي تصيب الأطفال. وكيف أنسى أختا لي صغيرة أصيبت بالحصبة ورأيتها في حضن أمها تئن حتى وافتها المنية. الآلاف المؤلفة ممن هم في عمري يتذكرون مثل هذه الفواجع. كانت قاعدة شبه أكيدة أن يفقد الوالدان نصف ذريتهم وهم صغار في المهد أو في سن اللعب أو وهم يافعون.
في الستينيات الهجرية كان المعدل الحسابي للعمر المأمول (الأعمار بيد الله) يقدر بحوالي 37 عاماً. وفي منتصف الثمانينات الهجرية كان يقدر بحوالي 57 عاماً. علماً أن لقاح الجدري صار إلزامياً لجميع الأطفال قبل دخول المدرسة منذ صدر نظام التطعيم ضد الجدري الجديد في عام 1380هـ، ثم أعقب ذلك خلال فترة الثمانينات إدخال لقاح شلل الأطفال والدفتيريا والسل، إلا أن الالتزام بالتطعيم كان رخواً حتى انه لم تتجاوز نسبة الأطفال المستهدفين في عام 1395هـ الذين تم تطعيمهم ضد السل 10% وضد الشلل والدفتيريا 38%. ربما كان الوعي غير كافٍ للاقتناع بأهمية التطعيم وضرورته للوقاية من الأمراض، ولم تكن شهادة التطعيم مطلوبة إلا عند دخول المدرسة. وكانت المكاتب الصحية ومراكز الأمومة والطفولة موجودة في عدد محدود من المدن ولم تكن المراكز الصحية على هذا النحو الذي نشاهده اليوم من الانتشار مما كان يحد من امتداد الخدمات الوقائية إلى كافة أرجاء البلاد أو من وصول الناس إليها. لذلك لجأت وزارة الصحة إلى استصدار موافقة المقام السامي بأن لا يتم استخراج شهادة الميلاد إلا بعد إكمال التطعيمات الأساسية التي تعطى خلال السنة الأولى من العمر. وكان هذا القرار ذا تأثير بعيد المدى، فقد أوجد وازعاً لطلب التطعيم وأدرك الناس مدى أهميته مادامت الدولة قد فرضته فرضاً من خلال ربطه باستخراج شهادة الميلاد. وهكذا لم تمض خمس سنوات حتى صعدت نسبة التطعيم إلى 70% للسل و 86% للدفتيريا والشلل. وفي عام 1405هـ كان معدل العمر المأمول يقدر بحوالي 61 عاماً. وفي وقتنا الحاضر فإن نسبة التغطية بالتطعيمات الأساسية تجاوزت 97% ووصل معدل العمر المأمول إلى 73.4 عاماً. وربما يقول قائل -وهذا حق- إن التطعيم لم يكن هو العامل المؤثر الوحيد وراء تحسن المستوى الصحي بل هناك المستوى المعيشي الجيد والخدمات العلاجية المتقدمة وإصحاح البيئة (مياه صالحة للشرب وسكن صحي). إلا انه يتضح ما للتطعيم من أثر بالغ إذا علمنا أنه في العام 1394هـ تم اكتشاف أربعين ألف حالة سل رئوي و280 حالة شلل أطفال وكان معدل وفيات الأطفال الرضع حوالي مائة في الألف، أما في عام 1429هـ فقد تم اكتشاف زهاء 2500 إصابة بالسل (أكثرهم غير سعوديين) ولم يكن هناك أي إصابة بشلل الأطفال منذ أكثر من عشر سنوات، وانخفض معدل وفيات الأطفال الرضع إلى سبعة عشر في الألف.
لكل ذلك لا نكون مبالغين حين نقول: إننا مدينون للتطعيم بالشيء الكثير ..!