صدر كتاب (تطور إدارة القضاء في المملكة العربية السعودية على ضوء النموذج المنشوري) للدكتور عبدالملك بن أحمد آل الشيخ وتركزت دراسته على فحص التنمية الإدارية للهياكل القضائية في المملكة العربية السعودية منذ منتصف القرن الرابع عشر الهجري حتى الوقت الحاضر، ويقول المؤلف: نحن لا نتناول هنا تطوير القضاء بالمعنى الفني وهو تطبيق الشريعة الإسلامية أو تطوير الأنظمة والقوانين ومصادرها الشرعية، ولكننا نهدف إلى تتبع تطور تنظيم أجهزة القضاء والعدالة وإدارتها حتى وصلت إلى التنظيم القائم لها، وإمكانات تطويرها تطويرا يؤدي إلى زيادة فعالياتها وقدرتها على الوفاء بالأهداف المرجو تحقيقها، وهو ما يدفعنا بدءا إلى الترطق إلى المقصود بالإدارة العامة والتنظيم الإداري وكيف تطور الفكر الإداري تمهيدا لتطبيق هذا الفكر -في تأملنا- لتطوير الهيكل التنظيمي لإدارة القضاء وأجهزة العدل بالمملكة العربية السعودية إذ نلحظ أن تنظيم إدارة جهاز القضاء ينطلق من فرضيتين أساسيتين تمثلا مفتاحاً للتوجه التطوري لجهاز القضاء في المملكة العربية السعودية على النحو التالي:
أ- يمثل الفرضية الأولى تنظيم القضاء منذ فجر الإسلام إذ جاء بأفكار وممارسات لم تكن شائعة من قبل، ومن أمثلة ذلك: ترسيخ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) مبدأ فصل السلطات فقد كان أول من فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية. قال الكتاني: رحمه الله فقد ولى عمر بن الخطاب على قضاء البصرة «أبا شريح الحنفي» وولي «كعب بن سور اللقيطي» فلم يزل قاضيا حتى قتل عمر وولي «شريحا» قضاء الكوفة وذلك قبل أن ينادي بهذا الفصل «مونتسكيو»، فيلسوف الثورة الفرنسية بأكثر من عشرة قرون وهو الرأي الذي استقرت عليه الآن دساتير الدول الحديثة المتقدمة ومن أمثلة الممارسات الإسلامية التي لها قصب السبق في تنظيم القضاء وإدارته، تلك المكانة الرفيعة التي أولاها الإسلام للقضاة والقضاء. وشرعت سلطات القضاة في الاتساع، إذ ظهرت أنواع من المحاكم المتخصصة مثل: قضاء المظالم وقضاء الحسبة ومحاكم القضاء العام، كما استحدثت دوائر ووظائف في الأجهزة القضائية مثل تسجيل الأراضي (السجل العيني العقاري الآن) وقضاة الصلح وكتاب العدل (الشهر العقاري والتوثيق الآن) وغيرها وبرغم هذه التطورات المبكرة والمبتكرة في ممارسات الحكومات والدول الإسلامية في تنظيم أجهزة القضاء وإدارتها -إلا أن ثمة فترة تمثلها القرون الخمسة السابقة على القرن الرابع عشر الهجري- تجمدت فيها هذه التطورات، وتوقفت في عصور ضعف العالم الإسلامي في آخر أيام الدولة العثمانية عندما مرضت، حيث بدأت تدب إلى تنظيم أجهزة القضاء وإدارتها أهداف وممارسات غير إسلامية، ومن ذلك التوسع في تفسير التسامح الديني، ووجود محاكم الطوائف، أو القضاء المللي والقضاء القنصلي وقضاء محكمة الجزاء الجنائي (قوانين أوروبية) وقضاء محكمة الحقوق (الأحوال المدنية) وفي المملكة العربية السعودية تحت قيادة المغفور له -إن شاء الله- الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، بدأت تدب روح جديدة من التطوير في تنظيم القضاء والعدل وإدارتهما.
ب- إن تنظيم أجهزة القضاء وإدارتها لا يختلف عن تنظيم الأجهزة الأخرى في الدولة، ففعاليتها وكفاءتها وإنجازها يعتمد على تطبيق المبادئ العلمية للتنظيم والإدارة.
ومن هذه المبادئ أن أي جهاز إداري يعد نظاماً مفتوحاً على بيئته يتأثر ويؤثر بكل ما يحيط به في هذه البيئة من متغيرات اجتماعية، واقتصادية وتاريخية وحضارية. ويسمى هذا الاتجاه يسمى المدخل الأيكلوجي ecology في دراسة الإدارة الذي يؤكد أن دراسة أي جهاز حكومي إداري، أو قضائي بمعزل عن الاعتبارات والمتغيرات المحيطة لا يساعدنا على فهم هذا الجهاز وتطويره وتنظيمه وإدارته ولقد بلغ هذا المدخل ذروته في تلك النماذج التي وضعها بعض علماء الإدارة والاجتماع التي تفسر التفاعل الحتمي بين أي جهاز إداري والبيئة المحيطة به بكل أبعادها ولعل من أشهر هذه النماذج (النموذج المنشوري) Prismatic Model لعالم الاجتماع السياسي فريد رجز Fred Riggs وسوف نقوم بدراسة نشأة إدارة القضاء والتطوير البنيوي في المملكة العربية السعودية استرشاداً بالنموذج المنشوري.