أوصت دراسة علمية بضرورة تحويل لجان إصلاح ذات البين في مسائل الدم إلى هيئة أو هيئات مستقلة وتفريغ أعضاء اللجان، والسؤال: هل من يتوقع منهم أن يكونوا جناة سيقدمون على القتل العمد لعلمهم أن هناك هيئات ولجاناً تدافع عنهم وعن دمائهم عوضاً عن تنفيذ القصاص شرعاً؟!
هذا السؤال مجرد توقع وليس فرضاً، ولست ضد لجان إصلاح ذات البين، بل لا بأس بوجود لجان وجهود، ولكن قد يشعر بعض ضعاف النفوس بأن الدماء رخيصة وأنها قابلة للتفاوض عند الإعلان عن مثل هذه اللجان وعندما نطالب بتحويلها لهيئات.
«القصاص - الدية المقررة شرعاً - العفو «خيارات مشروعة ويجب أن يستوعب المجتمع تلك الخيارات جيداً وأن يدرك أن الخيارات الثلاثة كلها متاحة ولا يمكن أن تتأثر بأي تنظيم رسمي لا حاضراً ولا مستقبلاً.
الخيارات الثلاثة إذا كانت حاضرة في ذهن من يتوقع منه الإقدام على القتل سيحسب لها ألف حساب، ولكنه حينما يدرك أن الخيارات تنتهي إلى خيار واحد تحت ضغط ثقافة العفو، فذلك من شأنه أن يخلق مزيداً من القتل وإرهاب خلق الله.
أن يتعب الباحث عن العفو وأن يدور بين لجنة وأخرى وأن ينتقل متعباً من وجاهة لوجاهة أخرى لالتماس العذر والعفو والصفح وأن يدرك الجاني إرهاق عاقلته، خير للمجتمع من وجود من يكفيهم شر ما يلاقونه من جراء تصرف غير مسؤول.
إن تضييق الخناق على الشفاعة في حكم القتل العمد قد يكون خيار المستقبل وربما الحاضر، ومع ذلك كله فلابد من العزم على تقرير عقوبة صارمة ضد من يحصل على عفو، كأن يحكم على القاتل بالسجن مدة لا تقل عن عشرين عاماً حتى وإن حصل على عفو، بما فيها المدة المنتظرة إلى حين صدور حكم العفو، وفي حال كانت المدة المنتظرة تقل عن عشر سنوات تكمل لعشرين عاماً.
نُقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه عطل حد السرقة لظرف مقدر، فهل سيأتي الوقت الذي نطالب فيه بإلغاء لجان العفو وترك الناس يواجهون مصيرهم مع الخيارات الثلاث «القصاص أو الدية المقدرة شرعاً أو العفو»؟! إذا أجبنا عن السؤال بكل صدق، فعلينا أن نبحث عن أنظمة وتشريعات تعيد للأمن توازنه دون أدنى فرجة أو فرصة لانتشار القتل. صحيح أن الشفاعة مطلب شرعي، ولكنها حينما تأتي بعكس المطلوب أو بما يجعل حفظ النفس مطلباً عزيز المنال فإنه في هذه الحالة تصبح الشفاعة آفة يجب التخلص منها.
أعتقدُ أن الدراسة العلمية المشار إليها عاطفية ولم تقدر مشروعية الخيارات المنصوص عليها في أحكام الدماء، ولذا أقترحُ أن يقنن عمل اللجان ومنع تحويلها لهيئات مستقلة وأن يمنع التصدر للشفاعة إلا عن طريق هذه اللجان ومن يثبت أنه طلب الشفاعة أو تدخل بالموضوع يحال للتحقيق وينتظر صدور الحكم عليه من قِبل القاضي، بعد تحديد عقوبة من يتدخل بالشفاعة من خارج اللجان، وعليه سيفهم الجميع أن المسؤول لا يرغب بالتدخل من أجل الشفاعة.
ومن القوانين المنتظرة فتح مجال عمل اللجان وتقنين طلبات الشفاعة والحد منها، بحيث لا يحق لأعضاء اللجان طلب العفو أكثر من ثلاث مرات، على أن تكون خلال ثلاث زيارات، مع تضمين الحديث عن الدية أثناء المطالبة بالعفو، وأن يحدد رقم التعويض المالي إضافة إلى الدية المقررة شرعاً خلال الجلسات الثلاث، وكتابة ذلك في محاضر رسمية مصممة خصيصاً لذلك مع تسجيل صوت المفاوضات، ومنع إضافة أي طلب مقابل العفو غير التعويض المالي في حال موافقة أولياء الدم على العفو.
وأقترحُ النظر في تقدير الدية المغلظة والمخففة وكذلك النظر في عدد حالات القتل كل عام، فإن زادت الأعداد يضيق الخناق على عمل اللجان ويدرس التقدير كل فترة ويعلن ذلك للعموم، من أجل أخذ الحيطة والحذر وإن قلت الأعداد يعلن عن نية حل اللجان ومنع تكوينها مستقبلاً.
تقليل عدد اللجان في الوقت الحاضر خيار مهم، بحيث لا تتعدى خمس لجان، لجنة للشمال ولجنة للجنوب ولجنة للشرق ولجنة للغرب ولجنة للوسطى، ومن ثم مراقبة أعمال اللجان وتحديد الدراسات المناسبة لكل منطقة والتحرك من أجل سد كل الطرق التي تؤدي لتفاقم المشاكل أو انتشار القتل العمد.
ما تطالب به الدراسة العلمية يدور في حلقة التشريع أو في ظلال التشريع، وقد تفضي لتوسع دائرة القتل العمد، ومن خلال متابعتي لما يتعلق بالموضوع شعرت بثلاثة أمور، وألخص فحواها بثلاث نقاط، فأولاً: قد يأتي الوقت الذي يتخلى فيه المسؤول عن الشفاعة لأن الشق أكبر من الرقعة، وعندها لابد من إيقاع السيف أو طلب العفو أو الدية دون ضغوط ثقافة العفو بطريقة اللجان أو بطريقة العادات المتبعة، وثانياً: قصر عمل اللجان والحد من تحركها بشكل عام مطلب وطني وشرعي عند تكاثر حالات القتل، وثالثاً: المطالبة بهيئات مستقلة للدفاع عن القتلة أو الشفاعة لهم سينتج عنه ما لا يتفق مع شرعية الخيارات الثلاثة ولا مع رؤية عمل اللجان.