كان السؤال يزداد علي إلحاحا يوما بعد يوم خلال سنوات دراستي للاقتصاد والمال والتجارة في أمريكا. فقد بدأت أكتشف أن ما يردده فلاسفة الاقتصاد الإسلامي ومريدوه ما هو إلا صدى نظريات الاقتصاد الماركسي الاشتراكي مع بقايا أدبيات اقتصاديات القرن الثامن عشر وما قبله، ولا وجود لها حقيقة أو واقعا في عالم الاقتصاد اليوم. وكنت أرى وألمس عن علم ودراية (بسبب دراستي في هذا المجال وخلفيتي الشرعية) كيف استطاع الاقتصاد الغربي أن يُسخر الأرقام -مجرد أرقام لا وجود لها- ويتلاعب بها لبناء أعظم اقتصاد عرفه التاريخ.
ومن هنا بدأت رحلة البحث لأجد أن هذه الفتوى -القول بربوية الفلوس المعاصرة- والتي قيدت اقتصاديات المسلمين وجعلت فوائضهم المالية نهبة للشرق والغرب، ما عاد لها مستند شرعي أو عقلي منذ انفصال الذهب عن غطاء العملات الورقية وتغير ديناميكية الاقتصاد الحديث بالكلية عما كان عنه قبل قرن من الزمان. وفي هذه المساحة البسيطة سأورد ما نص عليه علماء هذه البلاد فقط.
فقد جاء تحريم الربا عاما دون تفصيل في القرآن كالصلاة والزكاة، وفصلته السنة في قوله عليه السلام المروي في صحيح مسلم « الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كانت يداً بيد» وقد فهمت الأمة الحديث على وجوه عدة تتفق جميعها على اختلافها على أن الربا لا يقع في فلوسنا المعاصرة.
فالظاهرية يقفون عند هذه الأصناف الستة فلا يتعدون بها إلى غيرها، ومن أجل ذلك نص بحث حكم الأوراق النقدية لهيئة كبار العلماء بالنص التالي «فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس ولا في الأوراق النقدية ولا في غيرهما مما جعل نقدا، وتحريم الربا فيها تعبدي» انتهى من بحث حكم الأوراق النقدية المجلد الأول. وهو قول طاووس و عثمان البتي وأبو سليمان. قال الإمام الصنعاني «ولكن لما لم يجدوا - أي الجمهور- علة منصوصة اختلفوا فيها اختلافا كثيرا يقوي للناظر العارف أن الحق ما ذهبت إليه الظاهرية من أنه لا يجري الربا إلا في الستة المنصوص عليها». وقال ابن عقيل «لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس.»
وأما الحنابلة والأحناف فقد نص على رأيهم الشيخ صالح بن فوزان عضو هيئة كبار العلماء في بحثه ( الفرق بين البيع والربا) بقوله: «فعند هؤلاء «فلا يجري الربا في النقود الورقية المستعملة اليوم ولا في الفلوس من غير ذهب أو فضة لأنها غير موزونة» انتهى من كلام الفوزان.
وأما الشافعية والمالكية فقد نص على رأيهم الشيخ عبدالله بن منيع بقوله «وذهب بعض العلماء إلى أن علة الربا في الذهب والفضة غلبة الثمينة، وهذا الرأي هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي، فالعلة عندهما في الذهب والفضة قاصرة عليهما والقول بالغلبة احتراز عن الفلوس إذا راجت رواج النقدين، فالثمينة عندهما طارئة عليهما فلا ربا فيها» انتهى من كتاب بحوث في الاقتصاد الإسلامي.
إن مما سكت عنه أنه عند الظاهرية والمشهور عن الأئمة الأربعة هو عدم جريان الربا في الفلوس المعاصرة المستعملة اليوم. وأن الفتوى السائدة اليوم قد زالت حيثياتها وقد خالفها كبار علماء بلادنا. وأن هذه الفتوى اعتمدت على تخريج للشيخ بن منيع لرأي شيخ الإسلام ابن تيمية من أجل إيجاد مستند شرعي لربوية الفلوس بعد أن لم يجد العلماء إلا الاحتياط مستندا للقول بربوية الفلوس المعاصرة. هذا التخريج فيه نظر من حيث الصحة عن نسبته لشيخ الإسلام ومن حيث محظوراته الخطيرة وتبعياته، نكشف عنه لاحقا. في المسكوت عنه.