ستبقى أزمات مواد البناء مسيطرة على السوق المحلية طالماً أن وزارة التجارة والصناعة مازالت غير قادرة على تحديد احتياجات السوق، الآنية والمستقبلية، ومن ثم وضع الخطط الكفيلة بتوفيرها عن طريق الإنتاج المحلي الذي يمثل المصدر الأهم، والآمن للاكتفاء الذاتي.
المعرفة الدقيقة باحتياجات السوق، وتطورات الطلب يُساعد في وضع خطط الإنتاج الإستراتيجية المانعة لحدوث الأزمات المفاجئة المُرتبطة، في الغالب، بسوء التخطيط. أزمات مواد البناء المتتالية تؤكد على أن هناك خلل حقيقي في الإنتاجية المحلية التي يفترض أن توفر الحجم الأكبر من الطلب، واضطراب في حجم المعروض، وقصور في فهم مبادئ الخزن الإستراتيجي. تُشابه وزارة التجارة والصناعة في تعاملها مع الأزمات، فرق الإطفاء غير المحترفة التي لا تتحرك إلا بعد أن ترى ألسنة النيران وقد عانقت عنان السماء!!، في الوقت الذي كان بمقدورها منع إشتعال النار من خلال تطبيق إجراءات السلامة، وعزل مسببات الحريق؛ فالوزارة تتجاهل التخطيط الإستراتيجي، والقيام بدراسة الاحتياجات المستقبلية للسوق ومقارنتها بحجم الإنتاج المحلي، وضمان فائض في العرض يكبح استغلال التجار، والتحرك الاستباقي وفق تلك الدراسات لدعم إنشاء المصانع الإستراتيجية، وتسهيل إجراءاتها، ودعمها بالأنظمة والقوانين لضمان تحقيق فائض مستدام في الإنتاجية المحلية، والعرض بشكل عام، وبدلاً من ذلك تقوم باتخاذ إجراءات فجائية لتخفيف حدة الأزمة بعد نشوبها، دون أن تتمكن من القضاء عليها.
قد يكون قرار تعويم الأسعار منطقياً عطفاً على المتغيرات العالمية، ومساعداً للمصانع الوطنية التي ستجد في الأسعار الجديدة فرصة لتشغيل بعض خطوط إنتاجها المتوقفة لأسباب ربحية، ما يعني زيادة في حجم الإنتاج المحلي، إلا أن المشكلة لن تُحل من خلال رفع الأسعار، وتفعيل أنظمة السوق الحرة، على أساس أن عدالة السوق وحريتها تحتاج إلى توفير السلع بكميات تفوق الطلب، وتسهم في خلق المنافسة المشروعة، وترك السوق تحدد سعرها العادل بعيداً عن مؤثرات الإحتكار.
رَفْض المجلس الاقتصادي الأعلى «القرارات التي أعلنتها وزارة التجارة لمواجهة أزمة تجفيف السوق المحلية من الحديد بتقييد المصانع الوطنية بأسعار أقل من سعر التكلفة» يُرجح فرضية أن الوزارة غير قادرة على إتخاذ الإجراءات اللازمة لإدارة السوق وقطاعات الإنتاج بما يضمن إستقرارها، وحمايتها من الأزمات.
قد تكون وزارة التجارة، بحسب القرار المُصدَر، خالفت مبادئ السوق الحرة التي تعتبر السعودية من أبرز الملتزمين بها، إلا أن بعض مستغلي الأزمة من التجار والموزعين قد خالفوا شرع الله باحتكارهم سلعة الحديد وتجفيف السوق منها، طمعاً في مضاعفة الكسب، ما يجعلهم مستحقين العقوبات الرادعة التي تعيدهم إلى جادة الصواب. روي عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين؛ فهو خاطئ»، وقال أيضا: «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس»، وذهب العلماء إلى إلحاق إحتكار السلع الأساسية بالطعام. (مخالفة الوزارة مبادء السوق الحرة) لا تُعفي المحتكرين من تحمل مسؤولية إضطراب السوق، ونشوب الأزمة، وهو ما يستوجب التنبه له بعيداً عن مؤثرات الحملات الإعلامية الموجهة التي أتقن رجال المال والأعمال تنفيذها، حتى نجحت في تبرئة المُدان، و إدخال البريء في قفص الاتهام.
قرار إطلاق السوق وعدم التدخل في التسعير أمر مهم لحفظ التوازن، إلا أن تطبيقه بشكل صحيح يحتاج إلى فتح السوق، والسماح الكلي بتدفق السلع، ووقف الإجراءات الحمائية، ودعم وتحفيز المستثمرين المحليين والأجانب لإنشاء المشروعات الإستراتيجية الضامنة لتوفير السلع بحجم يفوق الطلب، وتحقيق التنافسية العادلة الكفيلة بضبط الأسعار بعيداً عن السيطرة والاحتكار.
وزارة التجارة والصناعة مسؤولة عن تقديم دراسات السوق الإستراتيجية، واحتياجاتها المستقبلية، دعم الصناعات المحلية، تسهيل إجراءات المستثمرين المحليين، وتحفيزهم لإنشاء مصانع الحديد، وتشجيع اندماج المصانع الضعيفة لتحسين الإنتاجية والربحية، وفتح السوق، لضمان تحقيق التنافسية العادلة، وضمان مواجهة الطلب الحالي، والمتوقع خلال العشر سنوات القادمة. من مصلحة المملكة أن تتحول إلى دولة مصدرة لبعض مواد البناء بدلاً من استيرادها، وتلقي صدمات الأزمات. يمكن للصناديق الحكومية أن تلعب دوراً محورياً في تمويل المشروعات المهمة، ومشاركة التجار في إنشاء المصانع المنتجة للسلع الإستراتيجية لتحقيق الربح، ودعم التنمية، وتحقيق التوازن بين مصلحة التجار والمستهلكين. حرية السوق يُفترض ألا تكون الغطاء الشرعي لمخالفات بعض التجار، الصناع، والموزعين، وألا تُبرر استغلالهم لضُعفاء المستهلكين، وأن تقترن دائما بتطبيق قوانين الاحتكار الصارمة، وتفعيل دور «حماية المستهلك»، ووجود الرقابة القادرة على كبح جشع التجار ونصرة المستهلكين.
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM