شهدت الأسابيع الأخيرة خطوات مهمة تجاه تأسيس الوحدة النقدية الخليجية. وتسيطر الأمور الفنية على مجرى المباحثات بشكل كبير، حيث يتوقف المشروع برمته على اتخاذ القرار المناسب بشأنها. وقد شهد المشروع خطوة متقدمة بتعيين محافظ للبنك المركزي الخليجي ونائباً له ممن يحملون خبرات استثنائية في مجال البنوك المركزية. وفي إشارة تشجيعية أخرى، تظهر المناظرة حول التكامل الاقتصادي لدول الخليج علامات توسع خارج المشروعات التي تمت الموافقة عليها رسمياً. ويعتبر اقتراح دولة الإمارات مزيداً من التكامل بين أسواق المال في المنطقة نقطة أساسية. وقد تم إيلاء المزيد من الاهتمام للأسئلة التي لا تزال مفتوحة في طريق تنفيذ السوق الخليجية المشتركة، وتعزيز موقفها العالمي من الكتلة الاقتصادية، من بين أمور أخرى من خلال عدد متزايد من اتفاقيات التجارة الحرة على مستوى الخليج.
المضي قدماً في الوحدة النقدية: لقد كان الاجتماع الأول في 30 مارس لمجلس النقد الخليجي الذي أنشئ مؤخراً، بمثابة نقطة تحول أساسية للوحدة النقدية الخليجية على العديد من المستويات. ففي الاجتماع تم اختيار أعضاء إدارة المجلس، الذي يعتبر خطوة تمهيدية لظهور البنك المركزي الخليجي المشترك. وقد تم اختيار محمد الجاسر، محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي، كرئيس لمجلس النقد الخليجي، بينما تم تعيين نظيره البحريني محمد رشيد المعراج، نائباً له وذلك لمدة عام واحد. ويجمع الرجلين بين العديد من التجارب الاستثنائية والخبرات كصناع للسياسة النقدية في المنطقة، وكمشرعين ماليين أيضاً. وقد أشرف الجاسر على أحد أهم القطاعات البنكية وأكثرها مرونة واستقراراً في العالم، بينما أشرف المعراج على مركز مالي إقليمي مهم كما أدخل الكثير من الابتكارات في مجال الإشراف والتنظيم. وسيعقد المجلس النقدي اجتماعاته ست مرات على الأقل خلال السنة كما سيتم دعم أعماله عبر مجموعة من اللجان.
النقاط الأساسية للعمل: من الواضح أن تركيز مشروع الوحدة النقدية الخليجية قد تحول من الأهداف السياسية واسعة النطاق إلى العمل الفني والتنظيمي اللازم لإنشاء أسس العملة الإقليمية الموحدة. ونظراً لكمية الأعمال المعلقة، فإن الاجتماع لم يتخذ قراره بشأن سعر صرف العملة الموحدة، ولم يحدد تاريخاً لطرحها، مع أنه أكد أن ذلك سيتم على المدى القريب. بدلاً من ذلك، سيكون التركيز الأساسي على إنشاء البنك المركزي الخليجي. الذي سيحمل مسؤولية إطلاق العملة الموحدة. وبوجه أعم، فقد وظف الجاسر كلمته الأولى كرئيس للحث على المزيد من التعاون الإقليمي في مواجهة الظروف الاقتصادية العالمية الصعبة. و قد تنحت الإمارات وعُمان عن المشروع في الوقت الراهن، مع أن دول مجلس التعاون كررت رغبتها في الانضمام للمشروع المشترك.
تعزيز التفاهم في مجالات أخرى: تبذل الجهود حالياً لاستكمال الاتحاد الجمركي لدول الخليج، وبالأخص من خلال إنشاء آلية للتشارك في الرسوم الجمركية بين الدول الأعضاء. وقد تم اتخاذ إطار العمل الحالي أساساً كإجراء مؤقت في العام 2003م، ولكن تم تمديده منذ ذلك الحين. فبلد المستهلك النهائي للسلع تستوفي الرسوم الجمركية بموجب هذا النموذج. وأمانة مجلس التعاون الخليجي بصدد تخصيص نسبة من هذه الإيرادات للبلد التي تدخل البضائع عن طريقها إلى الخليج، وذلك لتغطية بعض تكاليف الجمارك ومرافق التصفية. وهذا في المقام الأول سيعمل لصالح البلدان التي تعتبر مراكز لتجارة الترانزيت، خصوصا الإمارات.
وإلى أبعد من ذلك، فإن حل هذه المشكلة سيشكل خطوة مهمة نحو التفاهم التنظيمي والابتكارات المالية في مجالات مثل خطة طرح ضريبة القيمة المضافة الإقليمية. فالتنويع المالي عن طريق مصادر جديدة للإيرادات، ينظر إليه كأولوية مهمة في المنطقة ولكن ينبغي تطبيقها بطريقة لا تخلق اضطرابات بين الأعضاء.
المبادرات الجديدة: من المشجع أن المناظرة حول تكامل دول مجلس التعاون تظهر علامات تجاوز المشروعات المعتمدة رسمياً. لقد قدم وزير الاقتصاد الإماراتي سلطان بن سعيد المنصوري اقتراحاً حول تكامل سوق الأوراق المالية الخليجية في الاجتماع الأول للجنة الوزارية لرؤساء مجالس إدارات هيئات أسواق المال بدول مجلس التعاون الخليجي الذي عقد في الرياض. وينبع هذا من القرارات الأخيرة بشأن الأسواق المالية لكل من دبي وأبوظبي، التي تعرضت مع نظيراتها الإقليمية إلى ضربة أدت إلى هبوطها خلال الأزمة الحالية. وبموجب اقتراح الإمارات، ستعمل دول الخليج وفقاً لأنظمة ولوائح متطابقة. ومن بين أمور أخرى، ينص الاقتراح على رخصة خليجية موحدة تمكن الشركات من العمل في الدول الأعضاء. وعلى الرغم من أهدافها الطموحة، تقترح الخطة استراتيجية يتم تنفيذها على مراحل من قبل لجنة مؤلفة من رؤساء الجهات المنظمة لسوق الأوراق المالية في الدول الأعضاء. ومن حيث المبدأ سيسمح هذا بالتقدم التدريجي، وربما يتركز مبدئياً على الوصول بطريقة أكثر فاعلية من ناحية التكلفة لأسواق المال في المنطقة.
ويعكس مشروع المنصوري التطورات الأخيرة نحو توحيد سوق الأسهم في مناطق أخرى عديدة من العالم، أبرزها نازداك أو إم إكس ومجموعة يورونكست، ومع ذلك، فالأهم هو أن طبيعته المرنة تعترف بأن الاقتراح لدمج سوق الأسهم لا يعني كل شيء أو لا شيء. إن قضايا الملكية مهمة، لكنها تعتبر ثانوية في نهاية المطاف بالنسبة للاعتبارات التقنية والتنظيمية. وبهذا الصدد، فإن الجهود الأخيرة المبذولة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتعزيز التكامل المالي في السوق والكفاءة والشفافية من خلال جهود مثل: تنظيمات سوق نازداك الوطني والأسواق الموجهة بالأدوات المالية، قد تكون هدفاً أكثر واقعية وجاذبية من التكامل الرسمي. وعلى أية حال، فمن الواضح أنه بسبب حداثة التعاملات التجارية لدول الخليج، فهي لا تزال متأخرة عن أجزاء أخرى من العالم في مجال تكامل الأسواق.
توحيد الكلمة: أحد أهم فوائد الاتحاد الأوروبي هو بروز أوروبا على صعيد الاقتصاد العالمي. والمزيد من التكامل في دول الخليج سيعود عليها بفوائد مماثلة، علاوة على ذلك، يسمح لاقتصادات دول الخليج بتطوير نفسها لتتماشى مع موازين الاقتصاد العالمي الذي يتطور بسرعة. وبالعمل الجماعي، يمكن لدول الخليج أن تعزز قدرتها على المساومة في المباحثات التجارية إلى جانب زيادة ثقلها في المحافل الدولية. إن الإصرار على العمل بانسجام قد أتى ثماره بالفعل مع أول اتفاقية للتجارة الحرة على مستوى الخليج، التي تم توقيعها مع سنغافورة في العام 2008م. وتلتها أخرى مع الرابطة الأوروبية للتجارة الحرة عام 2009م. ويجرى التخطيط للمباحثات مع دول أخرى. و يزيل مثل هذا النهج بشكل فعال مخاطر النزاعات بين دول المنطقة، التي تميل إلى حالة من الكساد التجاري .
لا تزال التحديات العملية كثيرة: إن الروح الواقعية الجديدة قد تولدت جزئيا من الفشل. على الرغم من التقدم الكبير خلال العقود الثلاثة الماضية، فقد فشلت دول الخليج في كثير من الأحيان في الالتزام بمواعيدها المحددة أو الارتقاء إلى مستوى تطلعاتها. فقد شكل تنفيذ الكثير من المشروعات عقبات عملية وساهم في تأخير المواءمة التنظيمية. علاوة على ذلك، فإن واقع الحياة الاقتصادية في دول الخليج لم يعكس سوى القليل من الطموحات السياسية.
وعلى الرغم من نمو التجارة الإقليمية والتدفقات المالية، إلا أنها لا تزال متواضعة وفقاً للمعايير الدولية. ولعل ما يبرز ذلك، هو إحراز تقدم ضئيل جداً في مجال توحيد الشركات، التي تعتبر من أهم القصص الملموسة لنجاح التكامل الأوروبي. ومع أنه كان من المتوقع أن تؤدي الأزمة الاقتصادية الحالية إلى مزيد من أنشطة الاندماج و الاستحواذ، إلا أن الوتيرة لا زالت متواضعة نسبيا ومعظم الصفقات أبرمت في إطار كل دولة على حدة. وقد كانت جهود المنظمين للحصول على دعم للمؤسسات المتعثرة منظمة على مستوى كل جولة من الدول الأعضاء على حدة بالفعل. ومن المفارقات في الوقت ذاته، أن صناديق الثروة السيادية الخليجية لعبت دوراً مهماً في دعم المؤسسات الخارجية. ومعالجة هذه العقبات الخفية ستكون مهمة جداً لتحويل السوق الخليجية الموحدة إلى واقع ملموس.
* كبير الاقتصاديين بالأهلي كابيتال