رغم التغطيات الواسعة التي قدمتها الصحافة المحلية - مشكورة - لفعاليات المهرجان الوطني للتراث والثقافة ب «الجنادرية» في يوبيله «الفضي» هذا العام.. إلا أنه أضعف من مصداقية تلك التغطيات الصحفية.. ذلك الحجم المبالغ فيه من المدائح والإعجاب، اللتان كانتا تغمران به.. كل خبر أو تعليق أو تصريح عن «المهرجان» أو حوله،
حتى ولو دافعت الصحافة عن نفسها بأنها فعلت ما فعلت عن قصد، لتعلن عن ترحيبها الصريح.. وحفاوتها الأكيدة ب «عودة الروح» والألق إلى «المهرجان» بعد سنوات الركود القليلة والمؤثرة التي عانى منها، والتي بلغت ذروتها في عامه الثالث والعشرين.. عندما جرى تهميش أهم ما انتهت إليه لجنة المشورة الوطنية، المكونة من أربعين شخصية (أدبية، أكاديمية، تراثية، إعلامية) يحملون ألوان الطيف الثقافي المتعددة، والمكونة في مجموعها لثقافة هذه الأرض.. هذا الوطن، إلى جانب تجاوز ما انتهت إليه اللجنة المصغَّرة.. و«المنتخبة» من قبل هؤلاء ل «صياغة» محاور «ندوة» الجنادرية الكبرى في ذلك العام.. وتسمية المشاركين في كل محور من محاورها، مع استسلام - في المقابل - لقلة من أصحاب الرؤى الأحادية.. من المتسندين على مواقعهم الوظيفية بإدارات الحرس الأخرى، الذين يعتقدون أنهم وحدهم يملكون «الحقيقة».. وأنهم وحدهم الحريصون على مصالح الوطن العليا.. وعلى أمنه الثقافي والفكري، وتجنيبهما مهاوي الزيغ والضلال..!
ولكن يبدو أن «البرودة» التي طغت على مخرجات مهرجان ذلك العام في النهاية.. لم ترق لأحد، ولم تُرض أحداً.. وفي مقدمتهم القيادة الفعلية ل «المهرجان» التي لمحت فيما جرى.. مقدمات «انتكاسة» للدور الثقافي الطليعي ل «المهرجان»، ك «منصة» فكرية حرة ملهمة، تحتضن كل الأصوات، وتستقبل كل الأفكار والطروحات من داخل الوطن ومن خارج الحدود، وتتعالى فوقها طروحات اليمين واليسار.. والقوميين والإسلاميين من المستنيرين والمحافظين بحد (سواء)، وتستضيف مفكرين وفلاسفة من كل حدب وصوب دون حرج أو تهيب.. من أمثال: الخولي والجابري، والإدريس والفيتوري، والغزالي وهينتجتون!؟ فكانت الوقفة.. وكان التأمل.. ثم كان التعديل والتغيير الذي أتانا بالأمير متعب بن عبدالله ب«شبابه»، والأستاذ عبدالمحسن التويجري ب «حماسه».. لرئاسة اللجنة العليا ونيابتها ل«المهرجان»، والأستاذ حسن خليل «ابن» الجنادرية الأول.. ل «سكرتيريتها»، إلى جانب «مشورة» نخبة من مثقفي الوطن بتنوع أطيافهم وألوانهم.. فكان هذا «المهرجان» في يوبيله الفضي.. بصورته الباهرة التي ظهر بها، والتي أطنبت الصحافة في مدحها والثناء عليها، وتحفظت عليها.. كما في مطلع سطور هذا المقال.. رغم سعادتي الحقيقية بـ «المهرجان» وبكل ما جرى فيه.
كان شعار «المهرجان» الذي تابعه الآلاف - ولا أقول الملايين جرياً.. على حسابات صحافتنا - من أهل الرياض والمقيمين بها، وزوارها ممن قدموا خصيصاً للمشاركة في فعالياته الثقافية، أو الاستماع إليها، أو زيارة قريته الثقافية التي جمعت كل مناطق المملكة.. مثيراً مدهشاً يختصر اهتماماته وتوجهاته: «عالم واحد.. وثقافات متعددة»، ولا يختلف عن محتوى ندواته ومحاضراته وأمسياته السبع عشرة.. إثارة ودهشة، والتي كان في مقدمتها ندوتا: «السلفية» و«بين الحرية والمسؤولية».. ومحاضرتا: د. محمد يونس (تجربتي في محاربة الفقر)، ودولة رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد.. صاحب التجربة التنموية الآسيوية الأبرز، التي جعلت من «ماليزيا» نموذجاً.. يشدُّ إليه الأعناق والأحلام (رؤية وتجربة في التنمية الوطنية).. إلى جانب «ندوة» الاستهلال: (رؤية الملك عبدالله بن عبدالعزيز للحوار والسلام وقبول الآخر) التي شارك فيها بريماكوف «الروسي»، وفريدمان «الأمريكي»، وباتريك سيل «البريطاني»، وتركي الحمد العربي السعودي، و«محاضرة» وزير خارجية فرنسا الأسبق «هوبير فدرين» عن «الدور السعودي الفرنسي في النظام العالمي الجديد»، وكان رائعاً.. أن تتسع دائرة المساهمين بأفكارهم ورؤاهم في تلك الندوات والمحاضرات والأمسيات إلى مائة وخمسة وخمسين مشاركاً من كل ألوان الطيف الثقافي دولياً وعربياً وإسلامياً، إلا أن الملفت بحق.. كان في اختيار أستاذ الفلسفة: المفكر المصري اليساري الأبرز الدكتور حسن حنفي.. ليتقدم نيابة عن المثقفين في إلقاء كلمتهم أمام الملك عبدالله قبيل حفل الغداء الذي أقامه على شرفهم في قصره العامر، وأحسب أن كل ذلك.. أو معظمه ما كان ليتم لولا التغييرات التي حدثت في قمة إدارة المهرجان بقدوم أصحاب العقول الواعية المتفتحة، والصدور المتسعة ممن لا يضيقون ب «الكلمة» و«الرأي».. فضلاً عن أصحابها، للإمساك ب «دفة» المهرجان والحفاظ على انفتاحه الذي قاده بداية شيخنا الجليل، ومثقفنا العصامي الكبير صاحب «الليل الذي طال صباحه» المرحوم عبدالعزيز التويجري تحت رعاية ولي العهد بداية.. فالملك عبدالله بن عبدالعزيز نهاية.
لقد كان أمراً طبيعياً.. بعد كل هذا، أن يفكر «المهرجان» في يوبيله الفضي ب«أولويات» لم تعرفها سنواته السابقة.. ك «رمز» لاحتفاله بذكرى مرور خمسة وعشرين عاماً على إقامته، ك «اختيار» ضيف شرف دولي ل «المهرجان»، وتوجيه الدعوة له.. فكان ذلك - وبقصد واع بالتأكيد - من نصيب «فرنسا» بلد الحضارة والثقافة والنور، التي لبت الدعوة بحضورها الزاهي الأنيق، هي وأزيائها وعطورها وأجبانها وخبزها الفرنسي الفريد.. إلى جانب نماذج من مقاهيها الشهيرة، وعينات من سياراتها وطائراتها، مع صحبة من بعض رساميها ونحاتيها وأفلامها.. فكان حضورها والإقبال الكاسح على جناحها.. ذكرى لا تنمحي من عيون وقلوب الآلاف ممن شهدوا المهرجان ولياليه، ثم كانت أولوية المهرجان الثانية.. هي في نقل بعض فعاليات المهرجان الثقافية إلى خارج مدينة الرياض - وعلى غير العادة.. فيما أعلم - ك «ندوة الأزمة المالية العالمية» التي استضافتها جامعة الملك عبدالعزيز، أو محاضرة رئيس الوزراء الماليزي الأسبق مهاتير محمد التي استضافتها جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، أو ندوة «حلول إسلامية للأزمة الاقتصادية العالمية» التي استضافتها جامعة أم القرى.. فكان ذلك وكأنه نغمة جديدة، تضاف إلى لحن البعد الوطني الجميل للمهرجان..
ولذلك كله مجتمعاً.. كان حضور المهرجان غير عادي في «كمه»، بل وفي «نوعه» الملفت الذي ربما كان ذلك الزائر الأوروبي الفنان يمثل نموذجه. فقد استهوته رقصة «الدحة» الشمالية .. فرقصها مع الراقصين، وأشجاه صوت «الربابة» الحزين في «مضافة الجوف»، فقرر أن لا يترك قرية المهرجان التراثية.. إلا وفي معيته (ربابة) كتلك التي استمع إليها.. وقد كان، وإن كان الأسف سيحيط به عندما يستقر به المقام في وطنه فيما بعد.. فيجد «الربابة» بين يديه ولكن دون صوتها الشجي، ف «الربابة» التي استمع إليها.. كانت آلة وترية بسيطة ولكنها في يد عازف ماهر فنان.. فأين «العازف» الفنان..؟، أو كأولئك السيدات أو الآنسات البريطانيات.. اللواتي أسلمن أكفهن ل «نقَّاشة» الحناء الجيزانية، لتنقش عليها.. وهن يستمعن إلى الأغاني والأهازيج الشعبية الجيزانية في انتظار أن يجف نقش الحناء فوق أيديهن، وهو ما أحسب أنه سيدعو المشرفين على المهرجان.. إلى التوسع في هذا الجانب الفني التراثي الشعبي المؤثر والجذاب، والذي كان مهملاً او مغيباً بقصد.. بعد أن بعُدت وتراجعت أصوات الممانعين لكل ما يبهج القلوب ويسعدها ويروح عنها.
على أن هؤلاء الممانعين، ورغم وجودهم خارج حلبة «القرار».. إلا أنهم استطاعوا ب «تشكيكهم» وباطل نواحهم.. عرقلة الدعوة التي وجهها «المهرجان» إلى نجم شعراء المقاومة الفلسطينية الباقي.. الشاعر الصامد في أرضه، وفوق ترابه.. رغم الاحتلال وذله ومعاناته: سميح القاسم، ليكون فارس الأمسية الشعرية الأولى في المهرجان.. مساء يوم السبت (الرابع من ربيع الآخر)، فحُرِم المهرجان.. من حضوره، ومن صوته.. وشدوه الشاعري الخلاب، لو أنه شدا بقصيدة كإحدى قصائد ديوانه الرابع: (دخان البراكين).. قصيدة (ثورة مغني الربابة)، التي يقول فيها:
(غنيت مرتجلاً على هذي الربابة، ألف عام
ولكزت في شغف جوادي،
وانطلقت.. لألف عام!
عَمَّرتُ في شيراز قصراً
وابتنيت بأصبهان
ردهات معرفةٍ،
وعدت إلى الحجاز بطيلسان
وعلى دمشق رفعت رايات النهار، مع الآذان
وجعلت حاضرة الكنانة
في تاج مولانا المُعزُّ، جعلتها أغلى جُمانة
وبنيت باسم الله.. قرطاجَنَّة العرب العظيمة
وتلوت فاتحتي، على أنقاض أوروبا القديمة
وبنيت جامعةً، ومكتبةً، ونسقت الحدائق
وهتفت:
يا أحفاد طارق!
كونوا المنائر.. واغسلوا أجفان أوروبا البهيمة)
... ولكن «المهرجان» انتهى.. وغاب عنه الصوت الجميل، وفقد - ربما - واحدة من أجمل أولوياته في يوبيله الفضي، ولكن يبقى الأمل في (أبو عبدالله).. ليعوض المهرجان في قادم سنواته ما فات في سالفها!!
****