Al Jazirah NewsPaper Sunday  11/04/2010 G Issue 13709
الأحد 26 ربيع الثاني 1431   العدد  13709
 
جراحة جديدة .. لـ(المأنوسة) ..؟
حمّاد بن حامد السالمي

 

يتذكرها أهلها جيداً، وكذلك عشاقها ومحبوها - وهم بمئات الآلاف - يتذكرون.. أنها كانت تعيش داخل أسوار حجرية صلدة. توصد عليها أبوابها الأربعة ليلاً، فلا يراها الناس إلا في النهار.

ظلت طيلة عقود طويلة، وهي على حالتها تلك، حتى إذا ضاق بها سجنها التاريخي، انتفضت عليه، وثارت على ذاتها، فاقتلعت أبوابها، وحطمت أسوارها، وتمددت بأطرافها خارج السور، إلى فضاءات فسيحة، فيها النُّور والنَّوْر، وفيها الورد، وفيها الخوخ والعنب والرمان، وفيها الرياحين والياسمين، وفيها جداول رقراقة، وعيون مياه عذبة.

يتذكر الناس ممن عشقوها وأحبوها، أن مأنوستهم الجميلة، سبق وأن دفعت ثمناً باهظاً لثورتها العرمرمية تلك، التي خرجت بها من سجنها القديم عام 1368هـ. كان هذا الثمن من جمالها الأخاذ، ومن رونقها الجذاب. عندما خرجت من السور، ابتلعت بكل نهم وشراهة وجوع وجهل، كل حجر وشجر خارج سورها القديم، وداست في طريقها نحو الجهات الأربع، كل أخضر ويابس، ثم تجشأت بصلف، وشربت مخزونها الأرضي من مياه العيون والآبار، حينها برز من يشمت بها ويقول: اذهبي واشربي من البحر..!

توسعت المأنوسة.. تمطت وتمددت المأنوسة.. كبرت المأنوسة. كان هذا فيما بين عامي 1368هـ و1400هـ. قال بعضهم آنذاك: بل انتفخت وتبعجت وشاخت. ولكي تُعالج من حالات الانتفاخ والتبعج والشيخوخة، تداركتها أيدي الجراحين المهرة عام 1401هـ، فعادت إليها نضرتها وحيويتها، وزهت بين نظيراتها، حتى أصبحت تعرف بينهن بالعروس، لشدة إعجاب الناس بها.

في أقل من عقود ثلاثة، عادت إلى المأنوسة حالات الانتفاخ والتبعج، وظهرت عليها دلالات من شيخوخة مبكرة. بالغ أحد محبيها وقال: بل هي واقعة تحت طائلة السمنة والتخمة، بدليل أنها لا تحسن التنفس كما كانت تفعل من قبل. إنها تختنق وتغرق. لا تغرق المأنوسة في ماء كما قد يتبادر إلى الذهن، لأنها بالكاد ترى الماء في اليوم والليلة، ولكنها تغرق في مشاكل عديدة لا حصر لها، خلقتها هي لنفسها، بتمددها وتوسعها غير المحسوب ربما.

هل جاء دور جراحة جديدة للمأنوسة، لتداركها مرة أخرى..؟

قبل أيام قليلة، جمعتني مناسبة مع محافظها وأمينها، فهد بن عبد العزيز بن معمّر، ومحمد بن عبد الرحمن المخرّج، فوقفت معهما على خريطة عمل جراحية جريئة، بدأت مشارطها تعمل في أكثر من مكان من جسم المأنوسة. تبدأ هذه العمليات الجراحية، من قلبها النابض (وادي وج)، الذي سوف يتحول بعد ثلاثة أسابيع، إلى طريق سريع بطول عشرة كيلوات، بدون نقطة توقف ولا إشارة مرور واحدة، وجراحة أخرى تتناول طريق شارع الجيش، الذي سوف يمتد فينقل الحركة من طريق المؤتمرات شمالاً، إلى طريق الشفا جنوباً، يقابل ذلك، تحول شارعي السداد والستين، إلى اتجاه واحد لكل منهما. جراحة سريعة كذلك تجري لشارع خالد بن الوليد، لكي يصبح في اتجاه واحد إلى الشرق، يقابله شارع القمرية من الشرق للغرب، وجراحة بدأت لتوسعة نهاية طريق السيل مع شبرا، في إطار حزمة جراحية للطرق والشوارع، تنقل الحركة من الوسط إلى الأطراف، لفك الاختناقات التي أرهقت المأنوسة خلال الأعوام الماضية.

هناك عمليات جراحية كبيرة وملفتة، تشهدها المأنوسة هذا العام، وسوف تؤسس لأخرى أكبر في الأعوام الخمسة القادمة، وخاصة تلك المتعلقة بربط الهدا بالشفا، ضمن المنتجع العالمي هناك، وفتح عقبة المحمدية إلى تهامة ومكة والليث، ومشروع المطار الدولي، وتأهيل ميقات السيل الكبير، ومشروع متنزه البهيتة الشتوي، ومد جسور جديدة، وفتح أنفاق، وتشغيل فندق قصر المؤتمرات.. وتنظيم المنطقة المركزية مع مشروع ابن عباس والسليمانية، إلى غير ذلك مما يعد في مجمله، بنية تحتية واعدة، تؤسس لمأنوسة مختلفة في العقدين القادمين.

هل هناك جراحات أخرى ملحة من أجل المأنوسة..؟

أعتقد أن عقدة المأنوسة الأولى والملحة، تكمن في مرض العطش الذي تعاني منه منذ خمس سنوات. إن كبدها مقروحة، وإن صدرها مجروحة. أعجب ما في أمر هذه المأنوسة المريضة بالعطش، أنها حظيت خلاف قريناتها من حولها، بأكبر حزمة من الوعود المائية، التي لا تُصدَّق ولا تَصدُق..!

وعود موسمية جاهزة للإطلاق في كل عام جديد منذ خمس سنوات. إذا حل الصيف بحره قيل لها: في الشتاء تشربين، وإذا حل الشتاء بقره قيل لها: في الصيف تشربين. إذا جاء رمضان، أخذوا حصتها البسيطة للمعتمرين، وإذا جاء الحج، أخذوا ما بقي من هذه الحصة للحجاج..! فلم يبق أمامها إلا أن تشرب من البحر.. ليس بحر الشعيبة الذي هو غاية مناها، ومنتهى أملها، ولكن من (بحر الوعود) العجيب.. بحر مالح، ووعود أملح منه، ولكن.. ليس للمضطر إلا الشرب غصباًً عنه، حتى يبقى على قيد الحياة.

أعرف أن خريطة العمل الجراحية الجديدة للمأنوسة، جيدة.. بل أكثر من جيدة، لكنها سوف تظل مشوبة بالنقص، حتى تحل مشكلة مياه الشرب، وحتى نقف على أسباب نرفزات المأنوسة، ودوافع مشاكساتها أو مضارباتها اليومية، وحتى نذهب إلى أطرافها في القرى القريبة والبعيدة، فنثبت أقدام الناس هناك بقوة، في قراهم ومزارعهم ومراعيهم، حتى يبنوها ويعمروها ويعيشوا فيها، فيكفوا بعد ذلك عن الهجرة الضاغطة على أعصاب المأنوسة.. لماذا لا تكون الهجرة اليومية، والعطش اليومي، هما سبب الحالة النفسية التي تعيشها المأنوسة، فتجعل منها قلقة ونزقة وضجرة وخشنة، و(مشكلانية)، ونفسها في رأس خشمها كما يقولون..؟!

أتمنى أن نتوسع في الخريطة الجراحية ل(الطائف المأنوسة)، فنعالج أمراضها جملة، ومن أشد أمراضها إيلاماً، مرض العطش، ومرض الهجرة الريفية إليها من كل صوب.



assahm@maktoob.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد