الأمة هي مجموعة الأفراد والجماعات والكيانات التي يجمع شملها جملة من القواسم المشتركة، مثل الدين واللغة والمكان، خرجت دلالات هذه الكلمة من إطارها المعروف إلى إطار ذي صبغة سياسية جعلها من الكلمات المستفزة وغير المرحب بها عند البعض، تثير أعصابهم وعدم ارتياحهم، ف «الأمة» غدت مصطلحا سياسيا لارتباطه بجماعة الإخوان التي تسعى جاهدة لتحقيقه، وأضحى شعارا راسخا في أدبياتها الفكرية وخطبها السياسية، فالإخوان اشتهروا بأنهم لا يؤمنون بحدود الجغرافيا الوطنية والإقليمية، بل ينظرون برؤية أشمل في خطابهم وتطلعاتهم لصناعة كيان أوسع من حدود الوطن الضيقة.
وبغض النظر عن الموقف من هذه الكلمة، إلا أنها تبقى كلمة أصيلة ارتبطت بوصف الله تعالى لأمة الإسلام بأنها أمة وسطا، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}، ولهذه الأمة سمات روحية وفكرية ونفسية واجتماعية اختصها الله بها عن سائر الأمم، وبهذه السمات تميزت على الرغم من اختلاف الأجناس المنتمية لها عرقا ووطنا.
ومن طبائع الأمور أن يختلف الناس في هذه الأمة، فهم مختلفون في مستوى التقدم والتطور، والقدرة على الإنتاج، والمرونة في التعامل والتفاعل، كما يختلفون في درجة تقبل الآخر، والتسامح معه، وفي مستوى الرزانة في القول، والوقار في الفعل، وفي مواجهة المواقف وحلها، وفي التعامل مع الآخرين والعلاقة معهم، وفي إمكان التجديد و الاستيعاب، أو الجمود والانكفاء.
يحكم هذا ويتحكم فيه ويؤثر ما يمكن تسميته بالعقل الجمعي، ومدى نضج هذا العقل واستثماره، فالعقل زينة وميزة، به يحقق الإنسان أقصى درجات الطموح والآمال، والمكان والمكانة، ويكفي العقل شرفا أن الله تعالى أناط به معرفة الحق من الباطل، وبه يهتدي الإنسان أو يضل، ينجو أو يهلك، يتقدم ويرقى، أو يبقى في مكانه أو يتأخر.
وبالعقل تصنع كل أمة من أمم الله على هذه الأرض إرثها الفكري، وتطبيقاته الثقافية والحضارية، وهذا الفكر يتنامى أو يتلاشى حسب جهد الأمة وقدرتها على توليد المعرفة وتنميتها، يتجدد هذا الفكر في مجالاته، وينمو في مستوياته، ويغدو سمة وعلامة مميزة بمدى قدرته على التفاعل مع المتغيرات والمستجدات، وقدرته على الاستيعاب والتكييف والتطوير في ضوء الثوابت، أو يتبدد نظرا لجموده وتخلفه عن الركب، ويظل يصارع ويصادم ويدور في حلقات مفرغة من الرتابة والتكرار، ومن ثم يرتد على نفسه وينكفئ ويتلاشى من الساحة ويفقد مقومات الغلبة والسيطرة، وإمكان الصمود أمام الأزمات والتحديات، والسبب أنه بقي على بنية تكوينية ومفاهيم واحدة يجترها ويرددها، ولا يجرؤ على الخروج عن إطارها، بل قد يتعسف فهمها وتطبيقها، حتى بلغت بهذا الفكر وبأتباعه درجة عميقة من الانعزال والاستبعاد.
ولكل بنية فكرية أصولها الفلسفية والمجتمعية والنفسية، وبناء على هذه الأصول ومرونتها، تتحدد قيمة الفكر وقدرته على التجديد والتأثير، وبالتالي التفاعل والانتشار، أو الثبات والاضمحلال، وهذا يتوقف على فاعلية جملة من الميكانزمات التي تحرك البنية الفكرية وتدفعها إلى مجالات أرحب في التناول والتفاعل والاستيعاب، من خلال التجديد والتكيف، أو تدفعها إلى الانكفاء على الذات، والانعزال عن مواطن التأثير والغلبة.
تتميز مكونات بنية فكر الأمة الإسلامية والعربية عن غيرها، بثراء المصادر ونقائها، أخص مصادر التشريع التي تتوافق مع العقل وتدفعه إلى التفكر والتدبر والتعقل، والأعمال والسعي والإعمار والإبداع، ومن أوجه تميز هذه المصادر، وسطيتها وشموليتها ومرونتها وقدرتها على استيعاب كل المتغيرات والمستجدات، ولقد تمخض عن هذه الخصائص صور مشرقة من الإبداعات الثقافية والحضارية المتنوعة الثرية، تراكمت عبر التاريخ الإسلامي تجددا وتنوعا، اليوم تعاني الوسطية والروح الإبداعية في هذه الأمة من توجهين متعارضين، أحدهما يرى البغي سلما، والعدوان منهجا للمواجهة والتصدي، والآخر غلبه الوهن، لهذا يرى الخلاص في الانسلاخ من المحيط، والتحرر من الهوية، والاتجاه غرباً وشرقاً.
وللحديث بقية