في كل مرة تُوقف فيها سيارتك عند زيارة الأصدقاء تظهر في خيالك مباشرة صورة زميلك «المزعج» الذي يجعلك تكره الشلة وجمعتها، أو قد تكون الصورة لزميل عمل «نكد» يقف دائماً في الممرات ليتملق للمدير، ومستعرضاً بمؤهلاته وإمكانياته ومعرفته لكل شيء حوله، دماغك أصبح يحتفظ بصورة واضحة ويومية للمشهد، وللزميل (النكد) في جلسة الأصدقاء أو العمل، لذا لا يحتاج عقلك لبذل جهد كبير للتعرف عليه، فتوقعاتك بمكانه و»حركاته» وسلوكه، تسبق بصرك، لكن تخيل لو أنك دخلت إلى الاستراحة أو المكتب لتجد قريباً لك يجلس في نفس المكان، ماذا يحدث داخل دماغك..؟!
الحقيقة أن دماغك سيحتاج إلى جهد أكبر للاسترجاع والتعرف على الملامح غير المتوقعة لشخص غير متوقع، مهما كان قريباً أو معروفاً لديك، لأن آليات توقعات الدماغ هي عامل مهم في حجم الجهد الذي يبذله الدماغ للتعرف على الصور، فيما يبذل الدماغ جهداً أقل في التعرف على الأشياء والمواقف المتوقعة.
- ماذا يعني ذلك..؟
يعتقد العلماء أن دماغ الإنسان يعمل بالطريقة التي توصف بالمنطق العلمي، وهو منطق يعتمد على تركيب فرضية معينة، ثم اختبارها على الواقع للتأكد من مدى مطابقتها بصرياً، مع تسجيل للملاحظات الطارئة والمتغيرة.
وبحسب ما توصل إليه فريق علمي من «معهد ماكس بلانك» في ألمانيا، وجامعة غلاسكو البريطانية، فإن دماغ الإنسان يستخدم طاقة أقل، وجهداً أقل، عندما يسجّل أحداثاً أو صوراً متوقعة، بالمقارنة مع حاله عندما يلمح أشياء غير متوقعة واعتباطية أو مفاجئة.
الفريق درس العلاقة بين الدماغ والمعرفة، والبحث اُعتبر قفزة كبرى في فهم العلاقة المعقّدة بين الإبصار والفهم، التي توصف بالعبارة الشهيرة «رأيت فآمنت»، والتي تساوي بين الإدراك البصري للدماغ وبين معرفة أشياء العالم والتيقّن منها.
الدراسة تؤكد أن الإدراك البصري يعتمد على عمليات نشطة من التنبؤات؛ فالدماغ لا يكتفي بمجرد تلقي الصور واستقبالها وتحليلها، بل هو في حالة استعداد دائمة لاستقبال الصورة التالية، ووضع التوقعات والاحتمالات وعندما تأتي متطابقة الوقائع متوافقة مع توقعات الدماغ تصبح ردود فعله أكثر كفاءة وذكاء.
وهي بالمناسبة نفس الآلية التي تعمل بها الحاسبات العملاقة وتلك الفائقة السرعة والتي تجمع المعلومات والوقائع وتحللها، لتقدم تنبؤات وتوقعات وفرضيات في مستويات عدة، وصلت إلى جوانب تتعلق باتخاذ قرارات مصيرية في حياة البشرية، ومستقبل دول وشعوب، بل وترصد للطاقات والموارد الطبيعية، والثروات الإنسانية.
وسط هذه الكفاءة للدماغ التي وهبها المولى، لا يفترض بك أن تصبح مركباً في قطيع، أو رجلاً آلياً موجهاً، كل ما تحتاجه أن تستخدم عقلك وتنفض عنه الغبار وتمنحه حرية التفكير، وتنظفه من الصدأ الذي قد يصيبه بعطوب نتيجة الكسل والتبعية وقلة الاستخدام أو عدمه..!
إلى لقاء..