يخطئ من يعتقد جازماً أن مطالبة التعليم باللغة الإنجليزية ثم اشتراطها في حق الحصول على العمل هو الطريق الممهد إلى حيث عصر الحضارة والرقي، ويأتي على رأس تلك الأسباب أن شرط إتقان اللغة الأجنبية للعمل في الوطن هو مبدأ يخالف أبسط أبجديات الوطنية في التاريخ الحديث، وقد يكون اشتراطها مقبولاًَ في بعض المراكز العملية المتخصصة جداً..
لكنه بالتأكيد أمر غير مقبول في مجالات العمل العامة في الشركات والبنوك والمصانع وخطوط الطيران ووكالات السياحة والدوائر الحكومية.. كذلك من الناحية العلمية لايمكن بأي حال الوصول إلى إتقان لغة ثانية بجانب اللغة الأم، فجذور اللغة تتكون في مراحل أولية من العمر، ولن نستطيع الوصول إلى حالة الإتقان اللغوي للإنجليزية إلا من خلال استبدال لغة التخاطب داخل الأسرة إلى اللغة الإنجليزية!!
أضاع اشتراط إتقان اللغة الأجنبية في كثير من المؤسسات والشركات والمستشفيات فرص العمل على أبناء هذا الوطن، وفي جانب آخرأصبح ذلك الشرط وسيلة سهلة لتبرير استقدام مئات الآلاف من العمالة الأجنبية، وهو ما يعني أننا نعاني من خلل في إستراتيجية توطين ثقافة العمل في المجتمع..
وصل بنا الحال إلى أن نقيم مهارة الموظف في أداء العمل بقدراته في التحدث باللغة الإنجليزية، وأصبح منح درجة التفوق في امتحانات القبول في الوظائف الجديدة يعتمد على ذلك الشرط العجيب، وتحمل هذه الرؤية الضيقة في طياتها في جانب آخر درجة عالية من النظرة الدونية لأولئك الذين يجيدون لغتهم الأم في طرق التواصل في مكان العمل، وهو ما يعني أننا في اتجاه آخر ننظر إلى أعلى إلى الذين يجيدون بطلاقة اللغة الإنجليزية، أي اختصار مهارات الأداء الوظيفي في فقط إتقان لغة أجنبية..
اللغة هي وعاء الحضارة، ولا يمكن لأي وطن أن يتجاوز أزماته إلا بجعل لغته الأم الناقل الحقيقي للعلم والمعرفة بمختلف مجالاتها..، ولا يمكن إدراك جذور الحركة الفكرية والعلمية الهائلة في تاريخ ألمانيا في القرن التاسع عشر بدون فهم إنجازات مارتن لوثر، والتي مهدت إلى ثورة عملية وعلمية واقتصادية، فقد كانت ألمانيا قبل ذلك تحت الوصاية الدينية والاقتصادية للفاتيكان، وكانت ألمانيا تعاني من التبعية الثقافية والدينية لإيطاليا، لكن مارتن لوثر حرك التاريخ باتجاه ألمانيا عندما كتب بلغته الألمانية احتجاجه الشهير ضد الفاتيكان، وقرر بعد ذلك ترجمة الإنجيل من اللاتينية إلى الألمانية، ليصبح في متناول مختلف طبقات المجتمع، ولتبدأ من بعده حركة ترجمة كبيرة، وتدخل بذلك ألمانيا التاريخ من أوسع أبوابه، لتصبح في مقدمة الدول الصناعية في العالم..
لكن الإنسان العربي لايزال يعيش في ظل التبعية والكسل الذهني، فعقدة النقص أمام إنجازات الإنسان الغربي جعلت منه كائناً ضعيفاً ومهزوماً أمام سلطة حضارة المتغلب الأمريكي أو الإنجليزي، وأسيراً أبدياً أمام تحدي إتقان التحدث والكتابة بلغتهم، وهذا الموقف يخفي في باطنِه أنينا خفيا تحت شرط ضرورة التماهي مع الغربي في طبائعه ولغته، مما حوله إلى أشبه بالإنسان المشلول والعاجز أمام الإنسان الأقوى والمتفوق، وتظهر تلك الهزالة على شخصيته عندما يتحدث باللغة الإنجليزية أمام الحضور، وتنتقل الهمسات بين ألسنة الحضور: لغته ركيكة!.
قاد ذلك العجز المزمن إلى شرخ هائل في شخصيته العربية، مما جعل منه مضطراً أن يعيشَ بين ثلاث حالات، اثنتان منهما تتسمان بالتطرف، وهما إما خيار الشعور بالدونية والتبعية بمختلف أطيافها الثقافية والسياسية والاقتصادية أمام الإنسان الغربي الأقوى، أو باتخاذ أشد المواقف رفضاً للحالة الغربية المتفوقة..، أما الحالة الثالثة فهي حالة التيه والضياع في دروب الانطلاق بأقصى سرعة جنونية خارج أسوار العمل النظامي.