Al Jazirah NewsPaper Saturday  23/01/2010 G Issue 13631
السبت 08 صفر 1431   العدد  13631
 
العرب.. والحداثة
عبدالله بن محمد الشهيل *

 

الثقافة الفاعلة بحياة المجتمعات الحديثة: جامعة للنظري والعملي، والمادي والمعنوي، والأصيل والدخيل: تراثاً وآثاراً، حداثة وتحديثاً، فكراً وعلماً، تقنية وتنمية، زراعة وصناعة، حرفاً ومهناً، ومسؤولية وواجباً.

واستمرارية وفرزاً، سلوكاً وعملاً، وهي مكونات تتكامل بصيغ مؤسسية محفوظة بالتنسيق الدائم ككتلة مترابطة غير مجزأة، وتعتبر بهذه الصورة: الرافعة الأقوى لتعزيز المكانة، وتأسيس القدرات النوعية، وفرض التأثير، ومواجهة التحديات الصعبة بالإنتاج، والسياسة السلمية، والقوة الاقتصادية، ومراعاة للاستزادة، وتجنباً للارتباك، والتضارب والازدواجية: تجرى في هذه المجتمعات كل عقدين، أو ثلاثة: مسوحات ثقافية لبيان: الأولويات والمتغيرات، وترتيب الأهميات، حيث قد يقدم على ضوء كل مسح متأخر، ويؤخر أو يغتنى عن متقدم.

وفي جميع المكونات الثقافية باتت الحداثة ربما أكثر من ملحة: Modernism بغض النظر عن المتصل منها ببعض مدارسها الداعية للقطيعة مع الماضوية والتراث، ومقاومة الأديان المنحسرة في الآداب والفنون، وبعض الطروحات الفكرية الشديدة التطرف التي يرجعون نشأتها إلى ردة فعل عنيفة لفعل أعنف خلف إحباطاً، وشعوراً بالقهر بزمن لم تحل الاستنارة فيه دون قيام حربين عالميتين مدمرتين، فانعكست ثورة من اللاهدف في أدبيات بعض المفكرين الغربيين، ولكنها مبررة باحتجاجها على سياسات زادت على ما تعفنت به الماضوية بالاحتكار والأطماع، والطبقية والعنصرية، والشخصنة، والفساد، وتكريس القوة والاستبداد، والغزو والاحتلال، وانتهاك الحقوق.

هذه المدارس أو النظريات لم تشع بالمنطقة العربية إلا عقب سقوطها بالغرب، ويبدو أنها بطريقها للسقوط في الأقطار العربية، وهي بخلاف نظريات حداثية أخرى: أغنت الأعمال الأدبية والفنية: إبداعاً ونقداً، وأبحاثاً في إضافات لغوية، ومعارف إنسانية متنوعة أدخلتها عليها، وبينها وبين التحديث Modernity: مواضع اتفاق واختلاف بالكاد تلاحظ.

تتفقان برؤية استراتيجية، وخطوات محسوبة للعمل للارتقاء بحاضر مجتمعاتهما بشتى مناحي الحياة، ولكنهما تختلفان بأن التحديث يركز أكثر على العصرنة، أي الجاري، وينظر للماضي باعتباره مخزوناً فكرياً، وتراكماً حضارياً، ولأنه ضرورة حياتية للتواصل الإنساني لخروج الحاضر من رحمه، ويمتاز بالهدوء والتدرج، والتعامل بواقعية، بينما الحداثة تسعى لتكوين حاضر تكاملي قادر على مواجهة أصعب التحديات، وذلك لتقريب أبصار المستقبل بدراسات استشرافية، وكون نظرياتها بعمومها فقط بالجانب الفكري والأدبي تنطبع بالرفض للماضوية، والحدة والاستعجال، ومقاومة السائد، لا يعني أن كل نظرياتها رافضة، كما أن التحديث يهتم بالمستقبل، ولكنه ليس بنفس اهتمام الحداثة به.

وبأخذنا الحداثة في إطارها العام دون الالتفات للمتطرف منها في الجوانب الأدبية نجد أنها بزماننا لا غنى عن توظيفها بحياة المجتمعات الحديثة التي هي إحدى وسيلة لتعزيز مكانتها، وتأهيل أفرادها بالمعنوي والمادي، وبتفعيلها بحياتهم تكثر، وترتقي ابتكاراتهم ومهاراتهم وتلبي مختلف الاحتياجات، وتسهل الحركة، وتذلل الصعوبات بنوعية الخدمات، والتنمية المستدامة، ويقوى الاقتصاد بالإنتاج، وتنويع مصادر الدخل، واستثمار الثروة الطبيعية بحساب، وتزدهر الصناعات، وتستوطن التقنية.

وعلى ما تقدم نسأل: أين العرب من الحداثة؟!

ما يظهر حتى الآن للعيان: أنهم بعيدون عنها، وبتجاوز الخلفيات التاريخية، فحالهم لا تسر، لأنهم: متفرقون متضادون مصابون بأدواء التطرف والرفض، وتدني الوعي، والتردد والخوف، فتهمشت الثقافة العربية، وانطفأ وهج العقل العربي بالتشدد والنصية، وغياب الإحساس بالزمن، حيث تعطل استدعاء المعطيات نتيجة: بؤس التعليم، والنظرة غير الكافية للثقافة، وحصرها بالعلوم الإنسانية التي لا شك أنها ضرورية بحياة كل مجتمع، ولكنها لم تبلغ المستوى المؤثر، لأن الأدبيات العربية مخنوقة بالإقصاء والتطبيل، والأدلجة والمحاذير، والجمود والتغريب، فلم تنعكس إيجاباً على الإنسان العربي، ويحتفى بها عالمياً رغم ثراء المخزون الفكري، وتميز كثير من الأدباء والمفكرين العرب، وقدرات ورحابة اللغة العربية التي لم تضق بجديد، أو مصطلح، ومكامن الجمال فيها آسرة.

وما يجب الإقرار به هو: أن العرب يعانون من الضعف والتخلف، وردة الفعل دون الفعل، فبدت قدرتهم معدومة على سلوك سبيل الارتقاء الذي يبتدئ بحسب ابن خلدون ب(النظر والتحقيق والتعليل والتجريب) حتى يحيطوا بالأسباب والكيفيات، فتتأطر حياتهم بالإعمار، أو بما معناه، حيث نجدهم اليوم: مشوشين لا يعون الأولويات، وترتيب الأهميات، واستثمار الطاقات، وتفعيل الإمكانات، وفرز الوافد والموروث يستهلكون، وقليلاً ما ينتجون، ومعظم حاجاتهم يستوردون، وهذا تقصير لا قصور كما يزعم المتحاملون على العرب الذين استغلوا: تباين مواقفهم، وحدة خلافاتهم، وتفرق كلمتهم، فتحركت أقلامهم التي تفوح منها: روائح العمالة الرخيصة، والعنصرية البغيضة، والشعوبية الحاقدة، والاستشراق المغرض، والثأر التاريخي كمداً وحسداً، والأدمغة العربية المغسولة، منتحلين صفة الباحثين زوراً وبهتاناً، لأنهم بالشوفينية والتعصب المذمومين: أسقطوا ما يعانون منه على العرب، فعروا أنفسهم من الأخلاق، ووصمهم العار.

وصفوا العرب بسرعة الغضب، وقلة الصبر، والبلادة والاتكالية، والطمع والأنانية، والغدر والغش، والانشغال بالنساء والملذات، والخضوع للأقوياء، والجور على الضعفاء، وبأن ذهنيتهم تتوقف عند المرئي والمحسوس، وغير قادرة على الاستشراف، وتجتر الماضي، وأن العربي يتسلى بالحكايات الخرافية، والحضارة العربية لا تتعدى الإحياء والنقل إلى الإبداع والخلق والإضافة، فضلاً على أن العرب لم يسهموا بها إلا كحكام ميزوا أنفسهم على الذين صنعوها من مسلمين، وغير مسلمين بالسلطة والنسب.

العرب كسائر البشر غير معصومين، وبشريتهم تعرضهم للخطأ والصواب، والقوة والضعف، ولا يخلون من العيوب، ولكن التجني والتزييف، واتهامهم بالقصور الذهني وعدم الخلق والإبداع، والتذلل للأقوياء، والاستبداد بالضعفاء الهدف منه: الترويج لما هو شائع من تشويه للعربي باللغة العبرية التي حتى الآن محدودة التطور، لأنها ظلت قرابة ألفي عام محصورة في العبادات، والغناء الديني، وفي غير هذه الأغراض ليست مستعملة بين اليهود خارج إسرائيل.

ترويج لغيض من فيض ما تحفل به المناهج الدراسية والأدب وأجناسه والمنتديات والتجمعات والأفلام والمسرحيات والعروض الفنية والمسلسلات والتمثيليات والكتب والبرامج المكتوبة والمذاعة والمعروضة باللغة العبرية، وبعض اللغات ليهود من بلدان مختلفة استوطنوا فلسطين في أعقاب قيام دولة إسرائيل الذين لا يجيدون العبرية بدرجة كافية، الأمر الذي حفز الصهاينة بالعمل على إحياء، وتقوية وإشاعة اللغة العبرية، لأنها الرابط الأهم لتوثيق علاقة اليهودي بإسرائيليته، ولتكامل عقيدته اليهودية مع قوميته العبرية، حتى وإن دافع الكاتب عن القضايا الصهيونية وخدم بفكره إسرائيل، وهذا ما كانت تشعر به (يائيل ديان) حين قالت: (أنا يهودية... وأدافع بكتاباتي عن الصهيونية، ولكنني أشعر بأني غير إسرائيلية ما دمت أكتب بغير العبرية). من خلال كل هذه الوسائل، وربما غيرها، وبمنتهى الوقاحة والصفاقة، وبتضليل واضح، وادعاء فاضح وبكل بجاحة وانعدام حياء: صور الصهاينة بإسرائيل وخارجها: العربي بصورة وحش قاتل، وقاطع طريق، ناكر للجميل، وهمجي قذر، كسول لا يؤمن جانبه، وملول كثير التقلب وكذوب جبان.

عملية إسقاطية مكشوفة، قلبت الحقائق، وعكست غلاً وشعوراً غير إنساني، وتكريساً عنصرياً لما كان قد خطط له حاخاميوبيت داود، ومن بعدهم: بيت يهودا الذين رأوا بفعلة السامري، والتمرد على موسى عليه السلام، وفظاعة ما قام به (يشوع بن نون) ضد الكنعانيين: مدخلاً لهجر الشريعة الموسوية، وإحكام قبضتهم على اليهود من خلال إشعارهم بأن سبيل تفوقهم وقوتهم ورفاهيتهم وسعادتهم بالدنيا والآخرة هو بخلق المشكلات وإثارة الاضطرابات، السطو على الممتلكات، وزرع الفتن، وقد شرع لهم (التلمود) الذي وضعه لاحقاً أيضا كبار الحاخامات على إثر إحراق الهيكل، واعتبر شكلياً بالقداسة يلي التوراة ولكنه فعلياً مقدم عليها، وظل لخطورة محتواه طي الكتمان إلى أن تسربت أسراره عقب المؤتمر الصهيوني الأول في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.

شرع التلمود لليهود: إلحاق الأذى بغيرهم، وسماهم: الأميين، والأغيار، والأجانب بالعبرية (الجوييم) والمسلك المراوغ تجاههم، والحقد عليهم، والاحتيال والتزوير، وسوغ الظهور حسب مقتضى الحال، وما تستدعيه الظروف وحرضهم على القتل والعدوان، فنجح ما استهدفه الحاخامات في بيتي داود ويهودا، والتلمود، وأخيراً الصهاينة نجحوا بإقناع غالبية اليهود بمشروعية ما دعوا إليه.

وهكذا نجد أنهم عدا بعض الفئات منهم بالإضافة للإرث الذي خلفه نكران اليهود المعاصرين لنبوة السيد المسيح عليه السلام وانتظارهم حتى الآن لمسيح مخلص على هواهم، وخيانة (يهودا الأسخريوطي) له، وسخرية (اليهودي التائه) منه أثناء ما حسبوه صلباً، والجهر بمعاداة المسيحية جعلت المسيحيين: يرتابون في اليهود، ويحذرون أبناءهم منهم، ولا يثقون بهم ويصمونهم بالمراباة، والابتزاز والخداع، الدس والكيد، والتسبب بالحروب، فقوبلوا بالكره، وأدانهم الأدب واضطهدوا واحتقروا، وعوملوا بفظاظة.

العرب كما أثبت تاريخهم، وبشهادات حتى خصومهم الذين لا تسقطهم الخصومة بمستنقع التلفيق، والتزوير والافتراء ويعميهم الغلو عن إبصار الحقيقة يكونون: أمة من الأمم النابهة الحية التي مهما بلغ بها الضعف، واعترت ثقافتها الأدواء: عصية على التهميش، لا لأنها فقط من الأمم النابهة الصانعة للحضارات الكبرى التي مهدت لما تلاها، بل لكونها حتى بأقصى حالات ضعفها، وفي أحلك الأوقات، وأشد الأزمات: لم تعدم اللمعات الفكرية، القدرة على التجدد، والتغلب على الاختلالات بالمتح الواعي من التراث، والتأثر الهاضم بالآخر، وكثيراً ما حولت الانكسارات إلى انتصارات بحطين، عين جالوت، والزلاقة.

إن دخول العرب: عالم الحداثة العلمية الداحرة للتخلف، والمنهية للضعف، والقادرة على الاستجابة للتحديات الصعبة بمفهوم يخصب حياتهم بالثقة والقوة، والإنتاج والوفرة وينضج وعيهم بالتمييز والتسامح، ويشعرهم بالندية، ويعزز خصوصيتهم ويعمق ذاتهم برحابة تحجب الانغلاق، وانفتاح يحقق التفاعل، ويحضرهم فاعلين، ومفيدين، ومستفيدين: لا يبدو أنه بعيد المنال، حتى على من منهم دون العرب إذا وجدوا، ونسقوا وتعاونوا، واستعانوا بالخبرات النوعية وصبروا وأدمنوا العمل، والعرب بإمكانهم بلوغ الحداثة، وإن طال قليلاً ذلك، ليس فقط لضرورة الوقت، وإنما للتقصير بخدمة ثقافتهم وعدم توفر المناخات المناسبة، والحوافز الجاذبة، والحريات الكافية، وفقدان التنسيق وغلبة الفردية على العمل المؤسسي ومحدودية التعاون والتضامن فيما بينهم.

إنه مع أن هذه عوامل أدت لهجرة العقول، وأطفأت كثيراً من المواهب والانكفاء، والتطرف، والتبعية والرفض، والانشغال بالشكليات، والمداواة بالمسكنات، فالعرب بفطرتهم: حافظون للقيم الإنسانية، ومجبولون على الإبداع والفصاحة، ومقاومة الشدائد، وبسليقتهم سريعو التكيف، يمتازون بالفطنة والحلم، ويتوحدون على لسان، وحضارة، وتاريخ، وبيئة اجتماعية ويمتلكون الثروات الطائلة، والمواقع الإستراتيجية المكينة.

مما تقدم نستخلص: أن العرب قادرون على دخول عالم الحداثة، لأنهم عبر تاريخهم لم يمكنوا العجز منهم بالإبداع والابتكار، والتغلب على أشد الأزمات، وتخطي أكأد العقبات، وما دامت هذه حالهم، فليس مستبعداً أن يراعوا فيها البعدين: القطري والقومي بمنظور إيماني، ورؤية تعمل على تعميق استعجالا بها بتوطينها حتى لا تؤثر سلباً على قضاياهم بالتبعية، أو التقليد الخاضع، وتعينهم على استخلاص حقوقهم، وفهم ماهية التحضير الذي به تعتز الذات، وينتفع من التفاعل مع الآخر، وتسود ثقافة التسامح وينعدم الخسران بالتمييز وتصد التحديات بالعلم والتقنية، والإنتاج والتصنيع، وتتوهج العقول فتتوالى المعطيات، وتتراكم الابتكارات، وتفعل المشتركات، وتلبى كافة الحاجات، ويؤطر التضامن والتعاون في صيغ تكتلهم على الأساسيات.

* باحث في تاريخ الحضارات



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد