Al Jazirah NewsPaper Saturday  23/01/2010 G Issue 13631
السبت 08 صفر 1431   العدد  13631
 
بين الكلمات
فقه القهر والغلبة دعوة للإرهاب في عصر الدولة الحديثة
عبد العزيز السماري

 

مازلت أجد مشقة فكرية في قبول مبدأ القهر والغلبة كتشريع سياسي لتنظيم مستقبل الدولة في المجتمعات المسلمة، وقد أصبح بالفعل أمراً غير مقبول في ظل التطورات الإنسانية المذهلة في مختلف مجالات الحياة، وقد أفهم أن الفقه الإسلامي السياسي قد اضطر للاجتهاد في أن يكون نهج القهر والغلبة طريقاً ثالثاً، وخياراً مقبولاً للوصول إلى السلطة، بالإضافة إلى الطريقين الشرعيين، وهما اختيار البيعة وولاية العهد، ولعله كان اجتهاداً ضرورياً في ثقافة القرون الوسطى، وذلك من أجل وضع حد للقلاقل والفتن من خلال الأمر بطاعة ولي الأمر المتغلب على رقاب الناس بحد السيف والدعوة لعدم مقاومته، لكنني أجد في الاستمرار في استعمال فقه المتغلب في الوقت الحاضر دعوة غير مباشرة للخروج المسلح والإرهاب، الذي إذا كُتب له النجاح وجبت طاعته حسب رأي الفقهاء..!

يحفل تاريخنا المعاصر بالأمثلة التي تدل على أن هذا المنطق الفقهي السياسي سلاح ذو حدين، فقد سنّ هذا الاجتهاد تاريخاً من طبيعته الخروج المسلح وقيام الدول على حد الحراب، ثم إسقاطها بمتغلب آخر بحد السيف وهكذا، مما جعل مفهوم تداول الأمر دموياً، ويدفع الناس ثمنه خراباً ودماً وقهراً، فإذا خرج أحدهم وغلب على الخلافة بالسيف وصار خليفة وجبت طاعته، وإن كانت الدولة آمنة وفيها نظام سياسي قائم..

(قال الحافظ في الفتح 13-9 إن طاعته خير من الخروج عليه وذلك حقناً للفتن وتسكيناً للدهماء)، ويعني ذلك أن أمر الخروج من درجات الخير، ويفسر ظاهرة الخروج المسلح المبني على فتاوى دينية سياسية، فهو حكم فيه إيحاء بجواز الخروج المسلح إذا استطاع أحدهم أن يتغلب بالسيف على رقاب الناس، وهو ما يجعل من المجتمعات الآمنة في حالة عدم استقرار وخوف دائم من الفوضى، ويمهد لثقافة الهدنة مع حكم الغلبة خوفاً من شوكته وقهره، ثم الانتظار لفرص ضعف شوكته من أجل الانقضاض على كراسي الحكم..

ولو أخذنا تاريخ الدولة السعودية الحديثة كمثال على ذلك، والتي يُدخلها بعض الفقهاء في حكم المتغلب بحد السيف على رقاب الناس، وهو أمر يخالفه الواقع، فتأسيس المملكة العربية السعودية جاء كمشروع وحدة وطنية تحققت بقيادة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، ولم يضع رحمه الله السيف على رقاب الناس من أجل مبايعته، وكان من سلبيات هذا الموقف الفقهي أن تكون مختلف الثورات ضد هذه الوحدة الوطنية العملاقة مصدرها فتاوى واجتهادات فقهية..!

فقد كانت أولى تلك الثورات خروج حركة الإخوان بعد استكمال الوحدة الوطنية، وكان موقفهم يستند إلى أحكام دينية تكفيرية، وذلك من أجل تبرير الخروج المسلح ضد الوحدة الوطنية من أجل نيل شرعية المتغلب مبكراً.. كذلك تكرر نفس السيناريو في حركة جهيمان، الذي كانت دعوته تحظى بتأييد من بعض علماء الدين، وكان نتيجة ذلك أن خرج بحثاً عن الشرعية والغلبة بحد السيف في أطهر بقاع الأرض.. كان آخر هذه الحركات الخروج الأخير تحت راية النص الديني (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)، بعد أن تم تكفير الدولة، وذلك من أجل أيضاً تبرير الوصول إلى السلطة من خلال منهج الغلبة فوق جثث المسلمين، وبين دخان المتفجرات..

الملاحظ أن الحركات الثلاث اتفقت على حكم التكفير، لكن وفق تصورات ومظاهر مختلفة ومتنافرة، وهو يعني أن أمر الخروج يحتاج فقط إلى تبريرات مبنية على تصورات وأهواء فردية، وأنه لا يمكن تحييد الحكم الفقهي عن أغراض السياسة، فالخارجون يحتاجون فقط إلى فقهاء يفتون لهم بجواز الخروج، والفقه في تاريخ المسلمين أمر يشترط العلم الشرعي والانتخاب الطبيعي بين الناس، وبعض الفقهاء لا يزال يرى أنهم المعنيون بولاة الأمر في الآية الكريمة..

كذلك بقدر ما كان تحريم الخروج عن الحاكم حكماً ثابتاً في الفقه الإسلامي، لكن سرعان ما يتخلى الفقيه عن موقف التحريم في حالة انتصار الخارجين الجدد على الحاكم ثم قهرهم للناس، إذ تجب طاعتهم حسب اجتهاد الرأي الفقهي، إلى أن يخرج آخر بالسلاح، والتاريخ الإسلامي يحفل بصور لا حصر لها من هذه النماذج، ويمكن وصفها بالدورة الدموية وليس العصبية، فالقدرة على سفك الدماء أضحى لها غطاء شرعي..

تحمل السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي بالتأكيد في اجتهادها الفقهي النوايا الصالحة من أجل حقن دماء القلاقل والفتن، لكنها لم تقدم حلولاً مدنية للتطوير والإصلاح السياسي إلا من خلال حد السيف، وتأتي مشروعية هذا الحكم من خلال اجتهاد الفقهاء في قرون خلت، وكانت تحكمها ظروف مختلفة، ويُخالف في منطقه مراحل التطور الإنساني في هذا القرن، والذي يبحث عن الاستقرار والأمن، ويعمل من خلال آلية الحوار من أجل إصلاح الشأن الداخلي بدلاً من التهديد الدائم برفع السلاح في المجتمعات الآمنة..

في القرن الحديث ظهرت الدولة الحديثة بالمفاهيم العصرية، والمملكة في مقدمة الدول التي تتجه في مسيرتها نحو مراحل أكثر تطوراً، وإلى تجاوز نهج لم يكن له في الأساس تأصيل شرعي، إنما كان اجتهاداً فقهياً مرحلياً، ولا ينطبق على منهج الدولة الحديثة في المملكة العربية السعودية.. فالناس تبحث عن الاستقرار والأمن والتطوير من خلال آلية العقل لا آلة القتل.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد