من الصفات التي يفترض وجودها فيمن نذر نفسه للإصلاح التحلي بروح المبادرة والجرأة في الإقدام على سلوك السبل اللامألوفة وذلك عندما يتجلى له وفقاً لدراسة عقلية متمعنة أنها ضرورة تستدعيها...
....اشتراطات الواقع لتعميق حيوية الوعي العام ودفعه نحو آفاق النمو.
الافتقار إلى هذه الروح المتحفزة تجعل من الصانع النهضوي عنصرا مقيدا يتطلع وبشكل مستمر إلى من يأخذ بيده ويدفعه صوب الأمام, وهنا يفقد وظيفته؛ لأنه يكون تابعا لسواه منقاداً لغيره في الوقت الذي يفترض أن يكون هو القائد الذي يتقدم الجموع ويدشن مسيرتها الحضارية ويتحسس الأبعاد غير المشاهدة.
لدينا ثمة بعض التقاليد الثقافية التي تغتال روح المبادرة أو على أقل تقدير إضعاف حضورها تارة, وتارة أخرى قد تحضر تلك الروح ولكن بآلية سوقية مبتذلة الشأن الذي يفرض على مباشري التثقيف الكلي صياغة منظومة من الأدبيات التي تؤسس لتشويه التبعية واستشناع الإمعية واستبشاع الجمود الذي يراوح مكانه وفي المقابل التسويق لفضيلة التفرد ولمحورية المبادرة المتكئة على معطيات منهجية في منتهى الدقة والإحكام.
ثمة كثير من الفرص المواتية لاجتراح سياقات التقدم ولكن كثيرا ما يجري التجافي عنها بفعل الفَرَق من متتاليات معاكسة السائد وإفرازات مباينة المألوف وتجاوز المستكن الجمعي.
ثمة مشاريع ممكنة التحقق وقريبة المنال جرى وأدها في مهدها بفعل عدم وجود دفق عال من الطبيعة الإقدامية المرتكزة على ما يضفي عليها المنطقية والانسجام. والمتمعن في الأوساط الفقهية يلحظ كيف آلت الخشية من القيام بالمبادرات الفتوائية إلى بروز أقوال لا تنطوي على الثقل المعرفي الذي يرشحها للتداول المكثف ولكن ومع ذلك ظلت حاضرة وبقوة, حتى لحظة أوبة الروح للمشهد الفقهي والتي حورت نوعا مّا في المعادلة الفقهية ومنحتها قسطا أوفر من المنطقية. في واقعنا المعاصر عندما طفت على السطح أصوات فقهية تجنح نحو المغايرة أحيانا, أو عندما غيرت بعض الفعاليات في خطها الفقهي كضرب من مراعاة الظرف الآني ترتب على ذلك اضطراب عند البعض, بل وقد انتهى التصور ببعضهم إلى أن ثمة دينا مباينا يجري التدشين لأدبياته!, لماذا وصل الشأن بنا إلى هذا الحد؟ لا شك أنه نتيجة لغياب روح المبادرة وعدم الجهر بالرؤية المغايرة. طبعا ثمة من لديه روح مبادرة ولكنه يوظفها في السبيل المشوه الذي لا يعبر عن شجاعة أدبية بقدر ما يفصح عن ذهنية تهن أمام دوافع الشهرة على نحو يعميها عن رؤية عناصر الخلل ومن ثم يغريها بمصادمة الثابت النسقي وبالتالي ارتكاب المخالفة للمنطق العقدي العام؛ مثل هذه الذهنية تألف المخالفة لذات المخالفة, ورويداً رويداً حتى يبيت التمرد على عنصر التجانس المجتمعي هو المنحى الغائي الذي تتوخى الصيرورة إليه.
إن روح المبادرة المنبعثة على ضوء معايير موضوعية يفترض أن تكون مطلبا تشتغل وسائل التثقيف العام على الدعاية له حتى يبيت جزءا من الكينونة المعنوية للفرد. إشاعة هذه الروح وخصوصا لدى القيادات الفكرية شأن لابد من تحقيقه إذ الحاجة ماسة إلى وجود فعاليات قيادية تتوق دوما نحو إحراز السبق والوصول إلى درجة الريادة؛ نعم أحيانا قد يواجَه المصلح أيا كانت الدائرة التي يستهدفها بالإصلاح - وكما هو دائماً قدر المؤرقين بالهم التحويري - بنوع من الممانعة الشعبية التي تحد من فاعليته وتحجم من انطلاقته ولذا فهو بحكم ريادته مطالب بالاحتفاظ بروح متأبية تنفر من قيود البرمجة البيئية ولا تستسلم للضغوط المكبلة للحراك العقلي, إن المصلح مطالب بالتّماس مع الآفاق الماورائية مع محاولة التحاشي قدر الإمكان إحداث البلبلة وتحسير مدى ردود الأفعال العكسية وذلك من خلال الطرح الهادئ المعتمد على المرحلية والتدرجية, والمنطلق عبر آليات إقناعية وخطط مدروسة تذيب التصلب الناخر في البنية العامة. إنه لا بد من التضحية وتحمل تبعات السباحة ضد الموج الهادر, نعم هي معادلة صعبة ولكنها ليست مستحيلة, والمعدة الكلية كثيرا ما تعاني من عسر في الهضم, فهي لا تهضم الموائد الفكرية الحديثة إلا بعد تقادمها وكثافة استخدامها التداولي, أو عندما يجري فرضها على سبيل القسر والإلزام. وبيت القصيد هنا هو أنه ليس ثمة قيمة لمفكر لا يختلف تفكيره عن تفكير بقية أفراد مجتمعه, وأي قيمة لعقل مغرم بالتماثل؟! إنه يلغي فرادته ويمحو شخصيته لصالح التماهي مع الذوات المحكومة بالعفوية والاطراد العشوائي!.
Abdalla_2015@hotmail.com