|
كبار الشعراء الذين قدموا للشعر الكثير في تطرقهم (لكل أغراضه) بإجادة متناهية لا نقف عند الإشادة المنصفة بهم -لأنها حق مستحق نظير ما قدموه للشعر- من خلال إنتاجهم، المتفرد من منظور نقدي وتشهد لهم ذائقة المنصفين، ولأنهم مدارس مستقلة في الشعر فقد اختصروا لنا الحكمة والتوجيه وخلاصة التجارب بقصائد الماسية أثيرة (لو وقف عندها كثير من الشعراء الشباب لخجل من نفسه)، وهو يقدم لنا نماذج في كثير منها لا تعبر عن الاعتداد بالنفس، والهمة، والعزيمة، والصبر، كشيمة عربية إسلامية عريقة، إن كل حيادي يتألم وهو يقرأ لشاعر شاب قصيدة لا تخلو من انكسار وتهافت أقرب للخنوع الساذج دون النظر لاعتبار الشخص قبل الشاعر ودون أن يفكر في عواقب قراءة نفسية وخيمة لناقد منصف في يوم من الأيام لأن من -طرح نفسه شاعراً- حتى لو تسرع كشاب فإن إنتاجه حق مشروع لكل ناقد في كل زمان (وهذا شأن خاص بالنقاد والشعراء الشباب ليس هو لب موضوعي هنا) ولكن عملاً بنص -وبضدها تتميز الأشياء- وعلى وجه الخصوص في شعر الغزل الكل يحترم الشاعر الذي يعتد بكل جوانب شخصيته واعتباره أياً كان نصيبه من الربح والخسارة في رصيد جانب المشاعر كطرف أول لثانٍ في قصة عاطفية هي ضمن أقداره في الحياة لا تلبث أن تزول أو تبقى، سيان، المهم أن يبقى الشخص هو نفسه الشخص الكبير المثالي أمام نفسه قبل وبعد.. أسوق ما ذكرته (لأستفيد، ويستفيد) معي الكثير من شعراء الجيل الحالي والأجيال اللاحقة في هذا الخصوص، وباعثي الأول .. ما ألحظه من خلال متابعتي لشاعر شاب محبط لا يحفزه للتجدد وتجاوز ما هو فيه قصائد الكثير من أقرانه لأن (أكثرها) متشابهة ولا أعمم ولكن المسألة للمتابع رصدها يسير جداً وتوثيقها ماثل أمامه في نصوص كثيرة، في المقابل حين نتطرق لكبار الشعراء وننهل من خلال نصوصهم من عمق جزالتهم وأنفتهم المصحوبة بعزة نفس رفيعة كما أنها جزء لا يتجزأ من شخصياتهم فإنها تمتد لمن يبحث عن لآلئ الشعر الثمين بالاستفادة بعد أن يؤول إليه استنتاجه من هذه النصوص بالفحوى المثالية وهي الإباء والأنفة، وهذه دعوى صريحة نتبناها في مدارات شعبية لمحاربة الانكسار العاطفي والانكفاء على الذات وتحمل تبعات مرارة مواقف ليس مجبر من يتجاوزها أن يقف أمامها في نصوصه من الشعراء الشباب لأن الضعف لا يليق وحتى في ديننا الإسلامي الحنيف (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)، ورقة المشاعر لا تعني الضعف لأن العاطفة بأكملها جزء من الشخصية وليس العكس، يقول الأمير الشاعر عبدالله الفيصل رحمه الله:
|
اليوم ترسل لي وتبدي الوفاء لي |
تبدي لي أعذارٍ قصيرات واطوال |
تبي تجدد ما انقطع من وصالي |
ترضي غرورك بس يا حسن الاقبال |
ما عاد تخدعني عقب ما بدا لي |
وإن عدت فيما عفت مانيب رجال |
ولأن الأنفة ورفعة الاعتبار وجه مشرف من وجوه الرجولة -الحقّة- فقد وضع سموه -رحمه الله- النقاط على الحروف لكل من يؤمل بالتسامي ليتأمل معاني ضفاف الشعر السامية بمحتوى تفاصيلها، ويختزل أهدافها النبيلة من علو على ربى الحقيقة المشرقة بتجلٍ لائق كما يجب، وهذا ما نتأمله ونرتقبه في نصوص أكثر الشعراء الشباب لأن الشاعر بطبعه يؤثر ويتأثر، ونتمنى عليهم أن يتأثروا بمن يستحق أن يكون له الأثر الإيجابي المبهر على إنتاجهم. ويقول الأمير الشاعر خالد الفيصل في سياق متصل بنفس المعنى ولكن بأسلوبه الخاص، وفي مفاضلة صريحة ودقيقة على حساب العاطفة الجيّاشة في لحظات لا يحسمها كل شاعر دائماً إلا أمثاله:
|
نفسي عيوفٍ يا أريش العين تجزع |
ما تقبل الحقران لو من عشيري |
وفي رائعة شهيرة أخرى يمارس (التلميح) تفعيلاً لمقولة -الحر تكفيه الإشارة- دون الخوض في نمطية -شعر المملين- غالباً في تقريرية تفاصيل نمطية الحدث الماثل أمام المتلقي من خلال النص، فقد ضمَّن القصيدة كل التفاصيل سلفاً دون شرحها أو الخوض في الأسباب ومسبباتها، والذي يهمنا هنا -التوثيق لعزة النفس- بكل أدلتها:
|
لا تعتذر يا هوى البال |
ما نيب أحب المعاذير |
يوم انهالي بالإقبال |
ما قد جرى منك تقصير |
واليوم يوم الهوى مال |
يا علها لك مسافير |
الكسر في بعض الأحوال |
ما ينفع الكسر تجبير |
ما قد بقى شيء ما زال |
ولا كل فرقى مخاسير |
ولا كل حالٍ مثل حال |
في مر الأيام تغيير |
أما فارس الشعر -وشاعر الفرسان- الأمير محمد الأحمد السديري وهو مدرسة مستقلة في الشعر الجزل، وكذلك في عزة النفس والحض على المبادئ الرفيعة، ومكارم الأخلاق فإننا أمام تضمينه لقصائده بالكثير من العادات الحميدة التي نهلناها كجيل لاحق لجيله من خلال توجيهه ونصائحه والتأثر بمواقفه من خلال نصوصه، نتمثل بقوله في ترويض النفس حتى تستطيع تسييرها كما تشاء لا كما شاءت:
|
النفس روضها والأيام بإقبال |
توذيك كان إن الهموم اسهجتها |
وبالتالي حض هذه النفس على عزتها ورفعة شأنها:
|
رم المعزه لو تجي بين الادراك |
وعف الحياة اللّي وراها مذلّه |
|
إن جاء ينادمني وضيعٍ من الناس |
صديت عنه وقلت ما أنت بنديمي |
ما هوب كبر وكل ناسٍ لها أجناس |
وعندي (عزيز النفس) دايم حشيمي |
وامتداداً لرحلة عزة النفس واعتبارها وشموخها في شعر الأمير والشاعر الكبير محمد الأحمد السديري رحمه الله نقف عند رائعته ذائعة الصيت:
|
شخصٍ يوريك المذلّه وتغليه |
أنشهد إنك ميّت القلب عامي |
من لا يودك لا توده وترجيه |
إرفع مقامك (يا عزيز) المقامي |
ثم إلى الشاعر الكبير عبدالله بن نايف بن عون المشهور بجزالة شعره، وعلى الصعيد الشخصي بدماثة خلقه ومحبة الناس له، وما رواج شعره وانتشارية قصائده بين الناس من أجيال متفاوتة إلا دليل يوثق ما أشرنا إليه، وفي (عزة النفس) في شعر الغزل تحديداً.
|
لا يخفى (أبو نايف) ألمه وامتعاضه، ولكن ليس على حساب عزة النفس وهذا هو الأهم، وهو نفس الدرس الثمين الذي أبقاه هذا الجيل الرائع من كبار الشعراء للشعراء الشباب القادمين:
|
الله كيف الخل يصخي بخلّه |
وينقض مواثيق العهود الجويده |
يوم الغضي مقبل وانا مقبلٍ له |
وبنات فكري كل يومٍ جديده |
إلى أن يقول -وهو الشاهد لما نهدف لتوضيحه-:
|
كان السراب اللِّي زمى بارقٍ له |
ما أصير عوقٍ له عن اللي يريده |
اللّي نساك إنسه ولا تشتحن له |
ولا عاد يطري لك عليه تعويده |
لو كان جرحك منه ينزف مشلّه |
داوه بالاقفايه تراها مفيده |
اللي معه فكرٍ وعقلٍ يدلّه |
طرد المقفي ينقصه ما يزيده |
|