Al Jazirah NewsPaper Thursday  10/12/2009 G Issue 13587
الخميس 23 ذو الحجة 1430   العدد  13587
أبو عماد..
معين من الخبرة.. وكنز من التجربة
محمد بن أحمد الرشيد

 

تعمل (الثقافية) على إصدار ملف شامل عن معالي الشيخ جميل الحجيلان، واستكتبت لذلك عدداً من الرموز الثقافية والإعلامية العربية والعالمية ممن زاملوا أبا عماد في مسيرته الممتدة على مدى نصف قرن، وكان من بين المستكتبين معالي الأستاذ الدكتور محمد بن أحمد الرشيد وزير التربية والتعليم الأسبق، ونظراً لأهمية نشر شهادته في وقت متزامن مع مرحلة الإعداد للملف فإننا استأذنا الدكتور الرشيد كي نجتزئها من الملف ونقدمها مع هذا الملحق، مع وعد من أستاذنا أبي أحمد بكتابة مقال آخر وقت صدور الملف.

الثقافة
شرفني أخي وصديقي الدكتور عبد الرحمن الشبيلي في لقاء السبت الأسبوعي الذي يضم الإخوان في منزلي، ودار الحديث حول مؤلفاته التي تفرد بها، في منهجها؛ إذ عُرف ببراعة الحديث عن شخصيات ريادية سعودية تركت أثرها في حياتنا العامة.. شمخت بوضوح في زمن شح فيه المؤهلون علمياً في بلادنا -في حقبة مضت-.

والعجيب في أمر مؤلفات صديقي الدكتور الشبيلي أنها ذات طابع خاص يميز مسيرته في التأليف.. فهو يكتب عن الشخصيات البارزة في وطننا، لكنه ليس مطرياً لها.. أو مادحاً بلا حق لفعالها.. بل هو مؤرخ موثِّق بالحقائق لجليل أعمالها.

ودار الحديث عن رجل نشترك جميعاً في، حبه، وإعزازه وتقديره، هو صديقنا أبو عماد الأستاذ جميل الحجيلان، الذي ملأ وقتنا الحديث عنه ؛ لمخزون عطاءاته، وتعدد مناقبه.. وكثرة المحبين له.

وذكرت غبطتي بما كتبه مؤخراً الأستاذان سمير عطا الله، وحسين شبكشي وآخرون من الكتاب البارزين المعاصرين عن أبي عماد، وقلت: لكم تمنيت أن أشرف بالكتابة عن هذا العلم.. الحجيلان.. فأخبرني صديقي الدكتور عبد الرحمن الشبيلي (أبو طلال) بأن صحيفة الجزيرة سوف تصدر عدداً خاصاً من مجلتها (الثقافية) عن الأستاذ الحجيلان.. فسعدت بذلك أيما سعادة وإن كنت أعتقد أن عدداً صحفياً واحداً لا يفي بحقه، لأن أعماله، وعطاءه، وموقعه بين الناس يحتاج إلى سِفر كبير.

فبادرت في حينها بالاتصال بالدكتور إبراهيم بن عبد الرحمن التركي مدير تحرير الشؤون الثقافية لصحيفة الجزيرة الذي يشرف على ملحق (الثقافية) وسألته إن كان بالإمكان أن أسهم في هذا الإصدار عن هذا الرجل، فرحب مشكوراً، قائلاً: إن شخصيات أجنبية متعددة سوف تشارك في هذا العدد الخاص بحكم تعدد المواقع الهامة التي شغلها، ولما كان له من واسع العلاقات داخل المملكة وخارجها.

(2)

لكم سمعت عن أستاذنا الحجيلان - قبل تشرفي بلقياه - الكثير من الثناء الطيب على سجاياه، والإعجاب الكبير بقدراته، وبحكيم ريادته في إدارة دفة الإعلام الحديث، وما تبعه من مراكز قيادية أخرى اعتلاها ما ملأ نفسي تقديراً له، حتى لقيت شخصه في الثمانينات الميلادية حين زرته مع صديقي الدكتور راشد المبارك في مقر السفارة بباريس،إذ كان سفيراً لبلادنا فيها، وكنا في مهمة وطنية نسعى من خلالها إلى جمع الكلمة، ومحاولة إيقاف النزاع والقتال الدائر بين الدولتين المسلمتين الجارتين: إيران والعراق، وذلك بإقامة مؤتمر شعبي تشترك فيه أعلام الطوائف والمذاهب الإسلامية كافة ومعهم المثقفون وأولو الرأي من المسلمين أياً كان موقعهم، فكان لرؤاه الثاقبة وتحليلاته العميقة لهذا الموقف ما أفادنا كثيراً في جهودنا تلك.

ورغم عدم إقامة هذا المؤتمر -لأسباب يطول شرحها- إلاّ أننا استطعنا إحداث تفهم قوي لدى سائر العلماء المسلمين الذين سرعان ما انبروا للكتابة متجاوبين معنا، مؤيدين هدفنا من تحقيق السلام بين الجارتين، وبعد هذا اللقاء الأول مع أستاذنا الحجيلان الذي أفادنا كثيراً، وفيه انبهرنا بشخصية (أبي عماد) توثقت روابط الأخوة بيننا، وأصبحتُ متابعاً لأوجه نشاطه، وأحاديثه وكتاباته.

ومع الأيام كنت أزداد به تواصلاً، وثقة، وإعجاباً.

قلَّ أن تجد من هو في مثل عمر شيخنا وأستاذنا -أطاله الله- وقد جمع بين العديد من المناقب والتجارب.

إن أول ما يطالعك منه هو هذا التواضع الجم، الذي يوحي للجميع بأنه أخ حقيقي.. تواضع في الحديث معك.. تواضع في الحديث عن نفسه.. مع أنه مجموعة كنوز من العلم، والمعرفة، والثقافات العربية والأجنبية.

حقاً.. ما أنبل خُلق هذا الرجل، الوفي، الفذ، الذي أعتز بصداقته، صاحب المروءة، والسباق دائماً بالفضل؛ فمع علو مكانته، هو الذي يبادرني بالدعوة إلى منزله العامر في معظم الأحوال، أو يهاتفني للسؤال والتحية، أو التعليق على شأن من شؤون حياتنا العامة، حتى وهو خارج المملكة لا يقصر أبداً في الاتصال.

(3)

إن مما يلفت نظرك إليه بحق هو هذا الفكر الذكي اللمَّاح، وتلك الذاكرة الواعية الحافلة بالقديم والعجيب من المواقف والذكريات، حتى إنه ليكتب بوضوح واستيفاء عن أمر مضت عليه عشرات السنوات وكأنه عايشه بالأمس.. ذاكرة حية لم تزدها السنون إلاّ صقلاً وتألقاً، ولم تعطها الأعوام إلاّ بعداً، وعمقاً، ورسوخاً.

وهو حين يحدثني أو أقرأ ما يكتبه فإنني أتعرف من ذلك على تجارب واقعية مهمة شاهدها وعايش أحداثها، ولا يزال يحتفظ بكل تفاصيلها وتواريخها، مع أنها ليست قضايا شخصية.. إلاّ أن وعاء فكره ومخزون تجاربه حافل بالكثير من القضايا التي عاصرها، واستخلص من عمق وعيه الثقافي ما تومئ إليه من عبر وعظات.

وأمر أكثر عجباً.. أنه حين يكتب عن أمر من الأمور فإنك تراه يحلل عناصره، ويفسر دقائقه كما يفعل الفلاسفة حين يسبرون أغوار الفكر، وينقبون عن كل خفي، ليقدموا لنا الأمر حاذقاً.. والقول جاداً صادقاً، ومن أمثلة ذلك ما كتبه مؤخراً بعنوان خواطر من (عاصمة السلاطين) متحدثاً عن زيارة رئيس جمهورية تركيا السيد جودت سوناي في يناير 1968م لبلادنا.

ومن ذلك أيضاً ما كتبه بعنوان: (من بلغراد إلى الكويت) ففي هذا المقال ما يشير إلى حقائق تاريخية بالغة الأهمية لا يعرفها -على حد ظني- إلا هو، ومنها: هذا الموقف الأخوي الحميم للمملكة تجاه الكويت الشقيقة ومن ذلك المقال نعلم يقيناً أن مملكتنا هي أول من بعث سفيرها للكويت إثر استقلالها.. ما سبقتنا دولة أخرى في ذلك، توكيداً على أننا الأقرب والأوثق صلة.

ومما جاء في ذلك المقال - أيضاً - ذكره قرار المملكة الحازم المؤازر للكويت إثر تهديدات عبد الكريم قاسم لها بعد أيام من إعلان استقلالها، والفضل -بعد الله- يعود لموقف المملكة القاضي بحشد القوات العربية في الكويت؛ تحسباً لوقوع أي اعتداء عراقي، وردعه في حينه. وبمقال أستاذنا الحجيلان هذا تتذكر الأجيال المعاصرة أن وقفة المملكة مع الكويت إثر الغزو الصداميّ -لم يكن هو الأول- إنما هو امتداد ثابت لمواقفنا معها في كل حين.

ما أصدق التاريخ حين يرويه من عايشه ووعاه مثل أبي عماد.. إنه محيط معرفة متسع الشواطئ.. ثقافاته التي يموج بها فكره، وتتعدد منها مصادر معارفه

(4)

وتتنوع مناهله.. هي اللغات الأجنبية التي أجادها بعد تميزه في العربية، فجمع بين لغتنا اللغة العظمى.. وأتقنها فامتلك زمامها، وبعدها أجاد لغات أخرى، فنهل من ثقافاتها؛ مما أثرى موارد عطائه.. وعَظُمتْ أفكاره، وتنوعت مصادر كتاباته، وفيه يتحقق ما أقوله دائماً (كلما تمكن الفرد من لغته الأم تمكن من اللغة الثانية) وهو متمكن من الثانية بل والثالثة.

ولأنه جميل كاسمه في علاقاته الطيبة مع جميع من عرفوه في حياته ووظائفه ولقاءاته.. لهذا كله كثر محبوه وأصدقاؤه، ليس من المثقفين العرب وحدهم بل من رواد الثقافة والسياسة في دول كثيرة أخرى، حتى إنه صار مقصداً لكثير من رجال الفكر والإعلام من الدول العربية والأجنبية، يفدون إلى منزله العامر أو مكتبه المفتوح للحديث واللقاء، أو التشاور، وأخذ الرأي في أمور..

يزدحم الناس على بابه

والمورد العذب كثير الزحام

أنه... أول... إنه أول... وأول..

أول سفير للمملكة في دولة الكويت الشقيقة بعد أن نالت استقلالها عن بريطانيا،.. وأول وزير للإعلام... وأول من أشرف على التلفاز عند ابتداء بثه في بلادنا، وكثيرة أوائله.

تجاربه عميقة متعددة فذة.. فقد اختارته قيادة بلادنا بعد وزارة الإعلام ليكون وزيراً للصحة.. ثم سفيراً للمملكة في عدة دول آخرها فرنسا، التي استمر فيها عشرين عاماً، وكان له دوره البارز في توطيد العلاقات بين بلادنا وفرنسا وتوثيقها، حتى أن الرئيس الفرنسي (آنذاك) أقام له حفل وداع خاصٍ في منزله عند مغادرته فرنسا، وهذا ما ندر لسفير قبله.

وحين تولى الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية استطاع بحنكته وموضوعية أفكاره، وبُعد رؤاه، وصدق إخلاصه ووطنيته أن يحقق للمجس من الإنجازات الأشياء الكثيرة، ولقد عرفت ذلك حينما حظيت بعضوية الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى لمجلس التعاون.. بل إني حين شرفت برئاسة فريق من الهيئة لتقويم مسيرة المجلس منذ قيامه وجدت أن كثيراً من أهم الأعمال المنجزة هي من خالص.

(5)

جهده، وصادق عزمه، ودفعه ؛ إذ كان لا يرضى بأن يعمل معه في الأمانة إلاّ ذو التأهيل والقدرات، بعيداً عن المجاملات التي تحدث في بعض الأجهزة.

وحين أقرأ ما يكتبه صديقي أبو عماد بين فينة وأخرى بالأسلوب الأدبي الراقي أتذكر قصة أصحاب المعلقات في العصر الجاهلي، وكيف كانوا يدققون في كل ما يكتبون، وإن قل ما يقولون ؛ لأنهم كما كان زهير صاحب الحوليات يقضي حولاً كاملاً في تنقيح القصيدة الواحدة.. هكذا الحجيلان عمق فكر، وإثراء تجربة في روعة أسلوب، وبلاغة تعبير، وليته يستجيب لمطلب أحبابه.. وأنا أحدهم بأن يسارع الخطا في إصدار ما وعدنا به من كتابة سيرته الثرية العطرة.. ليكون نبراساً للتجارب التي نحن في أمس الحاجة إليها.

والدعاء الدائم: أمد الله في عمرك.. يا أبا عماد، وزادك عافية، وعطاء أيها الوطني الغيور المخلص.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد