** كأنه منذ ولادته رأى أن الحياة تشكلت بلونين متناقضين هما الأبيض والأسود.. لا لوحة من الألوان. اعتقاده هذا.. شبه راسخ ومتجذر غير قابل للتعديل نقصا أو زيادة. وهو في ذات الوقت يُغلب اللون الأسود على ما عداه.
** يحدثني وهو المُصر على قناعته بأن الزمن الذي نعيش فيه تطغى عليه المصالح والرغبات والأهواء.. وأنا أتفق معه في هذا.. وأن لا وسطية في الأمر في نظره.. ربما جاءت قناعاته كنتيجة حتمية لحدث.. حادثة.. واقعة.. موقف.. جعله يأخذ موقفاً ثابتاً.. ولم يغير من نظرته.. لا يرى اليوم إلا بسوداوية.. ضبابية يتحصن وراءها.. يتمترس خلفها.. يفسر الأشياء وفق رؤيته.. وفق نظرته ومنظوره وتفسيره.
** يتحدث عن الحياة وفق فلسفة شخصية.. اقتنع بها.. صورها هو.. يصر على تشكل الصورة وتلوينها باللونين فقط دون إتاحة الفرصة حتى للرمادي أن يدخل في تشكيله اللوني ولوحاته.
** ربما جاءت قناعاته تلك كردة فعل طبيعية.. ولكنه ليس محقاً في كل ما ذهب إليه.
** في حياتنا الأسود والأبيض والأخضر والأحمر وغيرها من الألوان.. نرى كل شيء بلونه.. لا نلبسه قميصاً بلون مغاير..
** المجالس.. مدارس.. مقولة عُلمنا بها ممن هم أكبر سناً.. وهذه حقيقة أدركناها فيما بعد.. تعلمنا منها أشياء كثيرة في صغرنا.. تلقينا فيها دروساً في التربية.. في السلوك.. في الاحترام.. في الاصغاء.. وحسن الاستماع..
** الكل يصغي وبانصات حين يتحدث أحدهم.. لا يقاطع حديثه أحد.. متحدث واحد والحضور بالعشرات.. هذا الحضور يضفي على المجلس الوقار.. احترام للمتحدث.. والكل يبحث عن فائدة.. معلومة.. حكمة.. درس.. وغيره الكثير.
** اليوم المجالس تحولت إلى منتدى.. مبارزة بين أطول الألسن.. الكل يتحدث ولا من منصت.. ألسن تحدث ولا آذان تصغي وتسمع.. يمضي الوقت دونما فائدة.. دون حصاد ودون ثمر..
** تهريج.. فرط كلام.. وقد يتطور الأمر إلى مشادات وتلاسن وتراشق بالألفاظ وصولا إلى التماسك بالأيدي (والفزاع بلقحه).
** ربما أن صاحب اللونين كان أحد مرتادي بعض هذه المجالس وناله منها ما أصابه بعمى الألوان.. لم يعد يملك القدرة على رؤية الألوان لأنه صدم.. من واقع رأى فيه التردي وشاهد قبحاً لم يعهده.. فانطوى وانزوى خلف نظرته واستنبط ما يعزز قناعاته ورؤيته للأمور بمنظوره وحده.
** وجد في خلوته تنصل من مجتمعه أو أنه حول نفسه إلى منفى إجباري.. يحاكي نفسه عن واقع مرير عايشه فترة ونأى عنه.. لم يأت هذا من حادث عرضي بسيط ولكنه ربما حمل له صدمة عنيفة وردة فعل تفوق قدرته على الاحتمال.. لم يعد يهمه معرفة الكثير من الناس وعدد الأصدقاء ومن يبتسمون في وجهه ومن يفشون السلام عليه.. همه أن يخرج بالسلامة.. وأن يبقى وحيداً يعيش مع نفسه لنفسه.. رغم المرارات التي يتجرعها من الوحدة مع النفس.