ينتشر منذ عقود أربعة مجلدات تحمل عنوان (الإكليل من أخبار اليمن وأنساب حمير)، ويلاقي الكتاب انتشاراً واسعاً بين الباحثين والمهتمين، وقد غفل أغلب هؤلاء عن حقيقة وجود شك قوي بأن تكون تلك المجلدات الأربعة أجزاء حقيقية من كتاب الإكليل!
ونركز الحديث فيما يُسمى بالجزء الأول من كتاب الإكليل والذي حققه وطبعه محمد بن علي الأكوع في عام 1387هـ - 1968م.
وقد لاحظنا كثرة في عدد الباحثين المستندين بهذا الكتاب (الإكليل الجزء الأول) وبعض ما ورد فيه من اختلاقات وأساطير بُني عليها كثير من النتائج غير الصحيحة، ولعل من أبرزها تلك الصورة المشوهة التي اتخذت ضد الهمداني ولُفق بموجبها اتهامات كان الهمداني بريئاً من معظمها!
التعريف بالهمداني وكتابه الإكليل
هو محمد بن الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني، يُعرف بابن الحائك الهمداني (1)، من قبيلة همدان المعروفة في اليمن، توفي سنة 334هـ (2)، ويُعد كتاب (الإكليل من أخبار اليمن وأنساب حمير) من أشهر مؤلفاته، إضافة إلى كتاب (صفة جزيرة العرب) وغيرهما.
وكتاب الإكليل من الكتب المفقودة، إلاّ أنّ هناك من زعم أنّ بعض أهل اليمن جمع أجزاء من هذا الكتاب، وكان علي بن إبراهيم القفطي من علماء مصر في القرن السابع (توفي سنة 646هـ)، وكان والده يعمل في اليمن لصالح الأيوبيين ذكر أنّ أجزاء مبعثرة هي التي وصلت من الكتاب من تركة والده وهي: الأول والرابع والسادس والعاشر والثامن، وهي على تفرقتها تقرب من نصف التصنيف، ووضع القفطي احتمالاً ان يكون الكتاب متعذر الوجود تماماً (3)، ولم تصل هذه الكتب التي ذكرها القفطي.
وفي عصرنا هذا قام البعض من المستشرقين والعرب بجهود لتجميع مادة الكتاب فتم العثور على بعض المجلدات التي طُبعت بهذه الأسماء:
1- الجزء الثامن من الإكليل: كان له نسخة ألمانية، ثم طبعه الأب أنستانس الكرملي في بغداد سنة 1931م، يتكلم عن معالم اليمن الحضارية من قصور وأضرحة لكبار الملوك الذين حكموا في تاريخ اليمن.
2- الجزء العاشر: طُبع بمصر بتحقيق محب الدين الخطيب، مخصص عن قبيلة همدان ونسبها وبعض أخبارها، وقد شنّع الخطيب على الهمداني واتهمه بالتلفيق تعصباً لقبائل اليمن وأدرج ذلك ضمن تعليقاته على هذا الجزء.
ثم قام باحث يمني معاصر هو: القاضي محمد بن علي الأكوع رحمه الله، فأصدر في ستينيات القرن العشرين الأجزاء التي ذكرناها أعلاه وأعاد تحقيقها بوجهة نظره، لكنه أضاف إليها الجزئين:
الأول - الذي سنركِّز الحديث عنه في هذا الموضوع، ذكر الأكوع أنه عثر عليه بالصدفة في مكتبة زميله القاضي: محمد بن عبد الله العمري وحققه وطبعه، ثم إنه عرض الطبعة على الشيخ حمد الجاسر رحمه الله في القاهرة، وأن الجاسر قام بكشف بتحريفات في متن واصل الكتاب ليُعاد طبعه مرة أخرى!
الجزء الثاني - ذكر الأكوع أنه اطلع على هذا الجزء بالصدفة أيضا! وذلك أثناء فترة سجنه عام 1367هـ.
دور الشيخ حمد الجاسر
وقد أوضح الأكوع أنه - وبتوفيق من الله - تمكن من العثور على الجزء الأول من الإكليل، ثم استعجل طبعه وإخراجه، ثم انه تقابل مع الشيخ حمد الجاسر رحمه الله في القاهرة سنة 1966م - 1386هـ وأهداه نسخة من الطبعة، فلم يلبث الشيخ الجاسر بعد فترة إلاّ وقد كتب تصحيحات متكاملة طالت متن الكتاب دون المساس بتعليقات الأكوع نفسه!
كتاب الإكليل ليس للهمداني!
لكن بمطالعتنا لأجزاء الكتاب الصادرة بتحقيق الأكوع (وخاصة الجزء الأول) تبين عدم صحة نسبته للهمداني، وعلى انه كتاب الإكليل! وسنعتمد في هذا التحقيق على طبعة مكتبة الإرشاد في صنعاء لعام 1429هـ-2008م
فباستثناء المجلد المطبوع على انه (الجزء العاشر من الإكليل) (4) الذي حققه محب الدين الخطيب، فإن المجلدات الأخرى لا يتضح أبدا أنها للهمداني بحرفها، بل هي لمؤلفين مجهولين، كان الهمداني وكتبه مرجعاً لهم من ضمن مراجع أخرى رجعوا إليها، وهذا يتضح من كثرة عبارة (قال الهمداني: ...) التي نجدها في متون هذه الكتب، ووافقها نقول من كتب أخرى ووجهات نظر لهؤلاء المؤلفين المجهولين ظهرت واضحة، كما أن أساليب هذه الكتب تعود إلى عصور قريبة لا تتعدى القرن السادس الهجري، في حين أن أسلوب الهمداني يختلف عن ذلك كليةً ونراه بوضوح في كتابه (صفة جزيرة العرب) الذي لا خلاف أن الهمداني هو مؤلفه.
الجزء الأول تحديداً كان قد أفصح عنه مؤلفه بمتن الكتاب وبشكل واضح وذكر اسمه ومناسبة تأليفه أيضا! ومع ذلك طُبع على انه الجز الأول من الإكليل!
لنقرأ مقدمة الجزء الأول:
(الحمد لله على جزيل نواله، وصلى الله على نبيه محمد وآله، قال محمد بن نشوان الحميري: الحمد لله موجد الأشياء بعد العدم .. الخ) وبعد أن أنهى الثناء على رب العزة والجلالة أردف مؤلف الكتاب قائلاً:
(سألت أكرمك الله بأنواع كرامته، وأعاذك من صرعة الباطل وندامته، أن أوضح لك أنساب حمير وأخبارها، فأجبتك إلى ماسألت، وأشفعتك منه بما طلبت مؤتماً بما ذكره الشيخ الفاضل المؤتمن لسان اليمن، وفائق من كان فيه من الزمن، الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني رحمه الله) أ.هـ
ومن يقرأ هذه المقدمة سيستنتج ما يلي:
1- أن هذا الكتاب ليس هو كتاب الإكليل ولا جزء منه، ولا يصح نسبته للهمداني من أي وجه، لاسيما وأن مؤلفه يفصح عن نفسه بهذا الوضوح.
2- أن مؤلف الكتاب الحقيقي هو: محمد بن نشوان الحميري، أحد علماء اليمن في القرن أواخر القرن السادس وبدايات السابع الهجري (600هـ - 699هـ) وقد أفصح عن نفسه!
3- المؤلف محمد الحميري أوضح انه قد ائتم (أي جعل إمامه) في تأليفه الحسن الهمداني فيما يخص انساب حِمْيَر، ولا يعني هذا أننا نستطيع أن نقول إن الهمداني هو المؤلف وان هذا من أجزاء الإكليل! فعلماء الدين يكون القرآن هو إمام علومهم وبحوثهم ومؤلفاتهم، ولكن تلك المؤلفات ليست هي القرآن وليست من الوحي! بل ينسب كل كتاب لمؤلفه.
الغريب أن الأكوع حاول أن يدافع عن افترائه على الهمداني في مقدمة التحقيق عبر إضافة افتراء آخر على المؤلف الحقيقي محمد بن نشوان، لأن الأكوع يعرف أن القارئ سيميز ان الكتاب من أول صفحة ولذلك نجده يقول عن شعور القارئ الذي سيتعرف على مؤلف الكتاب: (ويحس القارئ بسقطة في هوة سحيقة، كما بين الهمداني ومحمد بن نشوان من السنين والفارق الكبير وينحى باللائمة، ظاناً أنه من قبل خداع العناوين، ولكن تعمقنا في دراسة الكتاب والوقوف على مواضيعه طويلاً تبين انه الجزء الأول من الإكليل بنصه وفصه ...) أ.هـ
وهذه محاولة لتبرير ما قام به الأكوع، وهو القول بأن هذا الجزء هو مختصر الجزء الأول من الإكليل، رغم ان ابن نشوان لم يذكر ان هذا اختصار لكتاب آخر، بل كلامه كان واضحاً جداً من أن هذا كتاب يجيب به من سأله عن نسب حمير، ذكر فيه انه رجع إلى الهمداني كمصدر رئيسي، كما لم يوضح محمد بن نشوان انه استند على جزء بعينه من الإكليل ولا ندري من أتى الأكوع بحكاية انه الجزء الأول تحديداً! وعبارة ابن نشوان في انه اختصر بعض الأمور التي نقلها عنها الهمداني لا تعني انه اختصر الإكليل نفسه، لأن ابن نشوان ذكر في المقدمة انه اختصر من أقوال الهمداني فيما يخص أنساب حمير فقط! وانه اتخذه مرجعاً له فقط ولم يقل انه نسخ عنه حرفياً!
وحتى لو اتخذنا جزافاً وجارينا الأكوع في مذهبه في أن ما فعله ابن نشوان هو اختصار لكتاب الإكليل، فمن باب الأمانة أن يوضح هذا في العنوان على غلاف الكتاب، وأن يكون عنوان المجلد (مختصر ابن نشوان لكتاب الإكليل)، لا أن يحمل الغلاف اسم الإكليل ذاته! ثم يوضع اسم الهمداني وتحته الاسم الطويل للأكوع الحوالي كمحقق! فيجب ان يعاد للمؤلف حقه أعني محمد بن نشوان، وله يجب أن يُنسب الكتاب، اما التبرير من الكتاب مختصر عن الإكليل فغير مقنع، ولو انه مختصر لسوف يوضح ابن نشوان هذا الأمر، كما وضح صفي الدين ابن عبد الحق (ت 739هـ) اختصاره لكتاب (معجم البلدان) لياقوت الحموي على سبيل المثال، وذكر ذلك في مقدمة كتابه. والاختصار نوع من التأليف، وغير الاختصار هناك (الشرح) فكتاب (فتح الباري في شرح صحيح البخاري) مطبوع بهذا الاسم ولم يُوضع على غلافه (صحيح البخاري)!
ولعل المبرر الذي جعل الأكوع ينسب الكتاب للهمداني هو حماسته المفرطة لأن يكون أحد مخرجي كتاب الهمداني الذي يعد مفقوداً ورغبته في أن يُنسب فضل هذا الأمر إليه.
أما المبرر الآخر الذي ساقه الأكوع في نسبة هذا المجلد إلى الهمداني هو أنه رآه عند صديقه القاضي محمد العمري، وأن عنوانه كان (الجزء الأول من الإكليل) فليس مبرراً وجيهاً يجعل للأكوع يذهب وينسب الكتاب لغير صاحبه، فهو قد قرأ المقدمة التي كتبها ابن نشوان وبها بيان حقيقة هذا الكتاب، وكفى بتلك المقدمة دليلاً.
وقد زوّدني أحد أصدقائي بمقال كتبه إحسان النص الذي شغل منصب نائب مدير مجمع اللغة العربية، وأوضح النص النتيجة ذاتها التي ذكرناها عن (الجزء الأول من الإكليل) يقول الدكتور إحسان النص معلقاً: (على أن النسخة التي عثر الأستاذ الأكوع لدى القاضي محمد بن عبد الله العمري ليست في الواقع كتاب الإكليل، بل هي قسم من كتاب ألّفه الأمير اليمني محمد بن نشوان الحميري) (5)، ثم استدل الدكتور النص بما ذكرنا عن المقدمة التي كشفت المؤلف الأصلي.
متن الكتاب يضيف أدلة دامغة على أنّ الكتاب ليس للهمداني
أثبتنا فيما سبق أن مؤلف الكتاب هو محمد بن نشوان الحميري من خلال مقدمته، وهذا بحد ذاته كافياً، بيْد أنه لا مانع من إثبات صحة قولنا من خلال ملاحظاتنا عن ما ورد في متن الكتاب كأدلة أضافية نقدمها لمن لازال في قلبه ريب.
فعند تصفح كتاب الحميري المنسوب افتراءً الى الهمداني تتأكد لدينا ماهيّة الكتاب، ففيه نقولات عن الهمداني تبتدئ بالنص (قال الهمداني: ..)، وفيه نصوص منقولة من غيره وهي كثيرة، فهناك ما نُقل عن عمر بن الخطاب، وعن ابن الكلبي، وعن مؤلفي السيرة مثل ابن هشام، وهناك ما هو منقول عن معاصرين لمحمد بن نشوان نفسه، وقبل كل قول يلتزم المؤلف في توضيح من نقل عنه النص، وهناك خلط في الأقوال أيضا، وهذه جملة من الملاحظات الدالة بشكل قاطع على ما ذكرنا (وهو أن الكتاب لابن نشوان الحميري):
1- في ص 180 ذكر ابن نشوان نسب اكلب إلى ربيعة الفرس، وهذا رأي مناقض لما هو منسوب للهمداني في الجزء العاشر للإكليل الذي ذكر أن: أكلب ينتسب إلى ربيعة بن عفرس من حمير، فجعل ابن نشوان - المؤلف الحقيقي - يقول إن اكلب: أكلبان، وأن أحدهما (وهي الربعية) دخلت بالحلف في أكلب بن عفرس! طبعاً لكي يجمع بين القولين المتناقضين للهمداني وابن الكلبي.
2- في ص 262 نقل ابن نشوان نسب عنز بن وائل حرفياً من ابن الكلبي مع بعض الحذف، وزعم أن نسب عنز منقول ممن يصاليهم من جنب، وفي الحقيقة فإن ما نقله عن نسب عنز يطابق حرفياً قول ابن الكلبي، وذكر أن عسيراً بن اراشة بن عنز بن وائل (6)، في حين رأي الهمداني الحقيقي أن عسير يمانية النسب تنزرت بتبعيتها الى بني عنز بن وائل (صفة جزيرة العرب)، وللعلم فإن الهمداني لم ينقل عن ابن الكلبي ولا غيره، إنما نقل من أهل اليمن فقط، وهو لا يعتد بابن الكلبي أصلاً.
3- في ص269 يذكر (ابرق الرغامة)، وهذا يقع شرقي مدينة جدة في زمننا، ولم يُعرف بزمن الهمداني بهذا الاسم، ولكنه معروف منذ القرن السادس الهجري أي في زمن ابن نشوان.
4- في الحديث عن بني حرب يقول عن بطن (بنو ذؤيب) ص269: (أنهم أحدّ بني حرب حداً، وهم أخوال أبي القاسم إدريس بن جعفر من ولد موسى بن محمد الرضا) وهذا الرجل المذكور - الذي هو إدريس بن جعفر - ليس معاصراً للهمداني كونه - وبناءً على قاعدة الأجيال - من جيل متقدم من العلويين وربما معاصر لابن نشوان المؤلف (7) الحقيقي!
5- في صفحتي 288 و 289 ينقل تفاصيل سجن الحسن الهمداني، على يد أسعد اليعفري، ويتحدث عن تفاصيل علاقة الهمداني حتى إطلاقه، وصيغة الحديث تدل أن القائل ليس الهمداني نفسه، بل ابن نشوان الذي هو صاحب الكتاب، ولو كان الهمداني هو المتحدث لتحدث بضمير المتحدث!
6- في ص 192 و193 ينقل ابن نشوان معلوماته من صفة جزيرة العرب عن قبيلة
(مهرة) وينسبها إلى قضاعة، وهذا يعطي دلالة انه لم يكتف بالنقل من (الإكليل) وإنما نقل من غيره أيضا مما ألفه الهمداني. كما أن الهمداني لم يذكر نسب مهرة إلى قضاعة.
وهذه الأدلة رغم قوتها ورغم وجود رأي للدكتور إحسان النص نائب رئيس مجمع اللغة العربية أفصح فيه عن رأيه بمؤلف الكتاب الحقيقي (وخاصة المطبوع على انه الجزء الأول)، لازال الكتاب يُطبع وينشر على انه كتاب الإكليل حتى هذه اللحظة، ويتم بناء الكثير من النتائج العلمية بناءً على ذلك، وبرأيي أن ما يصح أن نقول أن الهمداني هو مؤلفه لا ينطبق إلا على الجزء العاشر فقط، فهل نجد تحركاً من المؤسسات العلمية في العالم العربي لتصحيح هذا الخطأ الفادح!
(1) معجم الأدباء لياقوت الحموي
(2) يرجح الأكوع أن الهمداني وُلد سنة 280هـ وتوفي بين سنتي 350هـ و360هـ بينما حدّد القفطي وفاته سنة 334هـ نقلاً عن طبقات الصاعدي وهو الأصح، أما تاريخ ميلاده فيظل مجهولاً.
(3) قصة الكتاب في موقع الوراق على الإنترنت، نقلاً عن كتاب (إنباه الرواة في أخبار النحاة) لعلي القفطي.
(4) نستطيع أن نطمئن - وإلى حد ما - أن يكون فقط المجلد المطبوع باسم (الجزء العاشر من الإكليل) منسوباً للهمداني، كون هذا الجزء فقط يشابه أسلوبه أسلوب كتاب صفة جزيرة العرب، كما أن أوله عبارة (قال الحسن الهمداني) وفي آخره عبارة (وبه انصرم كتاب الإكليل)
(5) مجلة مجمع اللغة العربية، القاهرة 1995
(6) وما ذكره ابن الكلبي هو (عُشيراً) وليس عسير! وقبائل عسير المعاصرة تتوارث نسبها إلى أزد شنوءة.
(7) إدريس بن جعفر بن محمد الرضا بن محمد بن اسماعيل بن الحسن بن أبو طالب بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (نسبه في كتاب المروزي في أعقاب زيد)، والمقصود هو إدريس وانه ليس من زمن الحسن الهمداني فكيف ينقل عنه؟!