Al Jazirah NewsPaper Tuesday  16/06/2009 G Issue 13410
الثلاثاء 23 جمادىالآخرة 1430   العدد  13410

تجربة (فتى) كان في طريقه إلى التطرف 1-2
كيف يحدث استقطاب الشبان إلى احتراب الواقع ونفيه؟!
د. محمد عبدالله العوين

 

في لحظة من هذه اللحظات الصادقة التي تغمر نفسه يعترف (الفتى) بأنه وصل وهو في هذه السن المتقدمة؛ بعد أن دلف على السنة الأولى بعد الأربعين بأنه لم يجد ما كان يحلم به من نصر وعز وتمكين لهذه الأمة، ولم يجد الأمة الموحدة القوية العزيزة الجانب؛ لقد تبخرت أحلامه، وتلاشت كما السراب الخادع في ظهيرة شديدة القيظ!

هو في هذه الأيام الفاجعة وقد ازدادت الأمة فرقة وضعفا واستكانة، وتمزقت أشلاء، ونُهبت، وفقدت سيادتها وقرارها، وبدت مظاهر الغضب المتفجر في صورة عمياء غير عاقلة على كل هذا من جماعات تنتحر وترمي أجسادها في أتون اللهب فتحترق وتحرق، وتقتل وتنتقل؛ سعياً - ربما - إلى الخلاص الذاتي من أزمة نفسية مستحكمة بسبب هذا الضياع، والضعف وهيمنة الأجنبي على مقدرات الأمة حسب دعواهم؛ هؤلاء المنتحرون الذين يعبرون عن مأزق هذه الأمة خير تعبير إنما يرمون من إقدامهم وبطولتهم وجهادهم - كما يذهبون إلى ذلك - لتطهير ذواتهم، وإبراء ذممهم مما لحق بالأمة من عار التبعية والاستكانة والاستسلام!

دارت في مخيلة (الفتى) هذه الهواجس وهو يتأمل في حصاد رحلة الأربعين؛ لقد جرب يميناً وشمالاً، ذهب في تفكيره إلى أقصى اليمين ثم ذهب إلى أقصى الشمال وها هو في حيرته المستبدة به بعد أن ناخت الركاب وحطت المزاود يبحث عن نقطة أخرى يبدأ منها مسيرة البحث عن الحقيقة الغائبة، عن سبيل جديد يسلكه للخلاص من هذه العتمة، ولمعانقة إصباح جديد!

كان بكراً غضاً طروباً طيباً إلى درجة تقرب من الضعف، محباً للناس وللحياة إلى درجة تقرب من السذاجة، وكان نابهاً وفطناً وذكياً إلى درجة تقرب من العبقرية والتنبؤ؛ كيف كان يجمع في إهابه بين كل هذه المتناقضات؛ لا يعلم كيف يمكن أن تجتمع السذاجة والعبقرية، أو الطيبة المفرطة والحذر الشديد، أو النباهة المتيقظة أبداً والاستسلام لخدر أي فكر جديد حين يتدفق وينثال. كان ناسكاً إلى حد العبادة غير المنقطعة، وشهوانياً في تكتم شديد وصبر أشد إلى حد تمزيق كل القوانين المعترف بها، وما هو سائد من قيم العرف والتقاليد، كان حين تغشاه لحظات النسك التي لا تفارقه كثيراً يعمد إلى اكتساب الأجر بأي فعل خير، يقود أعمى، أو يتصدق بما فضل في يده من نفقة شحيحة ريال أو ريالين، يكنس مسجد حيه الطيني، يعبئ (زيره) الفخاري بالماء يبترد به المصلون، يقرأ عليهم بعد صلاة العصر مختارات من (رياض الصالحين) وفي رمضان يؤمهم لصلاة التراويح، ثم يبكيهم بحرقة شديدة حين يلون ويجود في التلاوة؛ فيسمع نشيج النساء من خلف الستارة الفاصلة في (السرحة)، ويزيد على ذلك ما بين التسليمات بقراءة مؤثرة حالمة مترجية أو خائقة مقشعرة في كتاب (عقود اللؤلؤ والمرجان في وظائف شهر رمضان) فيختلط لدى مستمعيه - ومعظمهم من المسنين - نشيج البكاء بعبارات الرجاء. كان خيراً إلى حد أن نخبة من جيرانه أتوه وهو في السنة الأولى من الثانوية يطلبونه إماماً رسمياً لمسجدهم فاعتذر بلباقة ولطف، ورأى أنه لم يصل بعد من الصلاح والتقوى ما يؤهله لهذه المنزلة الرفيعة؛ صحيح أن صوته تسمعه القرية في صباحها الباكر عبر مايكرفون إذاعة المعهد العلمي وهو يتلو آيات من الذكر الحكيم في خشوع وتقليد للشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وأنهم يستمعون إليه ثانية في منتصف الضحى ينشد قصائد الوعظ والتذكير بالموت والآخرة؛ لكن ذلك كله ليس كافياً فهو يعلم تماماً ما تنطوي عليه نفسه الصامتة المختبئة في سراديب الداخل من نزعات جسدية شهوانية متمردة؛ يا طالما عذبته وأرقته وأسهرته مستغفراً تائباً عاقداً العزم على ألا يعود ثانية لنزغات الشيطان وإغرائه؛ كان في حيرة مرة معذبة بين الطهر والتأثم، بين الملائكية العذبة المجنحة التي تحتويه ويعرفه الناس من حوله بها وهذه الموجات العاتية من الوساوس المغرية المستبدة التي ما تفتأ تدعوه إلى الاستجابة لدواعي الحياة الطبيعية ونزعاتها!

لقد وجد فيه نفر من أولئك الجادين السالكين طريق الدعوة وإصلاح المجتمع ضالتهم؛ وهو في هذه السن النهمة للمعرفة، التواقة إلى البحث عن طريق جديد مضيء، يفسر من خلاله الحياة، ويحكم على الأحياء؛ تعرف من خلال أحدهم على الكتاب الأول فيما يسمى بالفكر الإسلامي؛ جاءه إهداء، إنه كنز ثمين؛ حقاً لا يوجد في مكتبته الصغيرة ما يضاهيه نفاسة وطباعة وتجليداً وتذهيباً؛ لقد أهدوه على تفوقه (في ظلال القرآن) حين تفوق على أقرانه في السنة الأولى من الثانوية؛ وكان هذا ديدنه طوال سني دراسته؛ فانكب على هذه المجلدات الثمانية الضخمة قارئاً نهماً مشدوداً إلى ربط (سيد قطب) الآيات الكريمات بواقع حياة المسلمين، وحركة الكون، وما يجري في العالم من أحداث، لكن استعصى عليه سبر أغوار معان ومصطلحات جديدة لم يسمعها من قبل عند غيره؛ ثم وجدها تتكرر كثيراً في كتاب أبى الأعلى المودودي؛ مثل (الإسلام والجاهلية) و(الحجاب) و(المصطلحات الأربعة في القرآن) (الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية) وغيرها.

كان (الفتى) قَبْلُ يقرأ خليطاً من الكتب؛ لكنها أقرب إلى التقليدية والفكر السلفي؛ زاد المعاد لابن القيم، الروح له أيضاً، فتاوى ابن تيمية، وعبدالرحمن بن سعدي، وما إلى ذلك من كتب لا تخرج عن المواعظ والمأثورات المنقولة شعراً ونثراً في هذا المعنى، ولكنه كان يقرأ في الوقت نفسه لآخرين من أعلام الأدب العربي الحديث؛ قرأ: الأيام، والحب الضائع، وحديث الأربعاء، ودعاء الكروان، وجنة الحيوان، ومن بعيد، ومن لغو الصيف إلى جد الشتاء، وتقليد وتجديد، ومرآة الضمير الحديث، وغيرها من مؤلفات طه حسين، وقرأ روايات تاريخ الإسلام لجورجي زيدان، والسحاب الأحمر، ووحي القلم، و معركة تحت راية القرآن، وحديث القمر، لمصطفى صادق الرافعي، والنظرات، والعبرات، وتحت ظلال الزيزفون، وفي سبيل التاج، وماجدولين لمصطفى لطفي المنفلوطي، وقرأ للقدماء من الأدباء (صيد الخاطر) لابن الجوزي تحقيق علي وناجي الطنطاوي، والعقد الفريد، لابن عبدربه، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وغير ذلك كثير.

بيد أن (الجماعة) لا يدعونه في عالمه ذاك المتفرد بالقراءة والاطلاع؛ فهاهم يغدون إليه في كل وقت؛ صباحاً ومساءً، لا يدعونه لنفسه؛ كانوا يتوسمون فيه خيراً كثيراً لدعوتهم، لقد جاءه أحدهم عصر يوم من أيام امتحانات السنة الثانية الثانوية فلم يجده في المنزل؛ فأخبرته (الوالدة) بأن (الفتى) يذاكر في الوادي، فلم يأل جهدا هذا الداعية المتأمل خيراً في فتاه فذهب يبحث عنه في أي واد هو؟! حتى وجده منكباً على شرح ابن عقيل لألفية بن مالك في النحو؛ أي أخوة هذه التي تجعل الداعية يطارد الفتى؟ لقد تساءل في نفسه: ما السبب يا ترى؟ وما هذا الحرص الشديد؟ ما مبعثه؟ ما دوافعه؟ وإلى أين يسير معهم في هذا الطريق الغامض الذي لا تبدو نهايته واضحة ولا قريبة!

وصل إلى مكتبته - وهو القارئ النهم - كل متتاليات هذا الفكر الإسلامي الحركي؛ وحرصت الجماعة على إيصال كل ما هو مؤثر؛ فقد بدأت بإهدائه (الظلال) ثم انتهت بتكوين مكتبة إسلامية منزلية، أهدي إليه (بصمة) ختم عليه اسمه ومكتبة فلان الإسلامية؛ حتى أوشكت هذه الكتب الجديدة عليه وعلى تفكيره إزاحة الكتب الأخرى التي يسترق الوقت حين يزور الرياض ولم يكن عليه رقيب من (الإخوان) ليشتري منها ما يشتهي ويرغب؛ لعلمه الشديد بنقدهم لما يطمح إلى اقتنائه من هذه الكتب التي يسمونها غير إسلامية؛ ومنها مؤلفات طه حسين، وإحسان عبدالقدوس، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، و يوسف السباعي، ونزار قباني، وغادة السمان، وسهيل إدريس، وتوفيق الحكيم، وعباس العقاد، والكتب المترجمة، وحرصت الجماعة على أن تكون مؤلفات (الإسلاميين) موجودة لدى الفتى؛ إهداء أو بتسهيل شرائها من مكتبة (اللواء) أو (الدخيل) أو (مكتبة الرياض الحديثة) من مثل مؤلفات: سيد قطب، حسن البنا، أبي الأعلى المودودي، فتحي يكن، مصطفى الرافعي، مالك بن نبي، محمد إقبال، مصطفى السباعي، سعيد حوا، كامل الشريف، عبدالقادر عودة، محمد قطب، نجيب الكيلاني، زينب الغزالي، يوسف القرضاوي (على تحفظ منهم على بعض ما ذهب إليه) خالد محمد خالد، ومصطفى محمود في مرحلتيهما الأخيرتين من تجربتهما الفكرية.

واستبدلت الجماعة ما كان يقرؤه (الفتى) من مجلات لا تلتزم بفكر أحادي واضح؛ بل هي مجلات مفتوحة على كل الثقافات والأفكار؛ مثل: العربي، اليمامة، النهضة (وكان لها آنذاك شنة ورنة) الدوحة، الهلال، وروزاليوسف، وصباح الخير، وهاتان الأخيرتان تسببان له سخطاً لا حدود له من بعض الإخوان حين كانوا يجدونها لديه بعد زياراته القليلة الخاطفة للرياض. واستبدلوا كل هذه المجلات المنحرفة بالدعوة، والمجتمع، والبلاغ، والاعتصام، وغيرها.

وفي يوم خلوي جميل تقاطر إليه شبان من مختلف الأقاليم في بلادنا؛ فهذا من الرياض، وذاك من القصيم، والثالث من إقليم سدير، والرابع من الطائف، وهكذا؛ جمع ربما يفوق الأربعين شاباً، في مخيم ربيعي جميل وزاه من الأيام القليلة الممطرة؛ كان يحف الحضور والجالسين صوت مقرئ يتداخل أثره مع النسمات ونبض الروح والأشواق المتطلعة الثائرة؛ وحديث من يحفر ويضرب بعمق في أخاديد الأرض السياسية والفكرية والاجتماعية وبذكاء شديد؛ مجانباً الانكشاف الكامل لئلا يترصد عقل فطن مرامي هذا الفكر الإسلامي الحركي الحديث؛ الذي ينطلق أول ما ينطلق من مفهومات: البعث الإسلامي، الطليعة المسلمة، المجتمع الإسلامي، جاهلية هذا العصر، الحاكمية، الكفر، الطغيان، الانقلاب الإسلامي، وما إلى ذلك، كان حديث القيادي يندلق في هدوء وحدة فيتكسر مع النسمات الهابة من جانب باب الخيمة المفتوح مثيراً في النفس آمالاً واسعة عريضة بالتغيير؟!

ما هذا؟ أكل هذا الذي نعيشه غير إسلامي؟ أدبه، ثقافته، إعلامه، ناسه، طقوسه الدينية التقليدية، ماله، بنوكه، صلاته بالدول الأخرى؟! كل هذا؟! ما الذي يجب فعله لكي يكون كل هذا إسلامياً؟!

لقد جاء الجواب على التساؤل الملح على خاطر (الفتى) وهو يقلق في إعياء بين رجاء ويأس من الوصول إلى مجتمع جديد فاضل بهذه المواصفات والمواصفات الفكرية؛ جاءه الجواب حين اختلى به أحدهم من الكبار المنظرين الذين يعتد برأيهم وفطنتهم ودهائهم: إنك أيها (الفتى) الصغير مهيأ للعب دور كبير ورئيس في إقامة هذا المجتمع الإسلامي المنشود الذي استمعت إلى سماته وملامحه وحدوده من المتحدث الشيخ فلان؛ إننا نتعشم فيك أن تتحمل هذه المسؤولية الكبيرة التي لن تخلو من تضحية وفداء!!

تضحية مسؤولية وفداء؛ كلمات كبيرة لم يستطع كاهل (الفتى) الصغير احتمالها، بدأ القلق واضحاً على محياه، طأطأ رأسه في هدوء وتأمل، صوت نشيد حماسي يدفع إلى الإقدام والاستشهاد:

أخي إن ذرفت علي الدموع

وبللت قبري بها في خشوع

فأوقد لهم من رفاتي الشموع

وسيروا بها نحو مجد تليد

أخي ستبيد جيوش الظلام

ويشرق في الكون فجر جديد

فأطلق لروحك أشواقها

ترى الفجر يرمقنا من بعيد

يا لهذه الحيرة؟ من أنا وكيف أطلق للروح أشواقها لتعانق الفجر الجديد؟ من الذي يطلق، ومن هي الطليعة، وما هو الدور الذي ينتظرني؟ هل أنا على كفاءة عالية من حيث المقدرة العقلية والفكرية، ومن حيث العزيمة ومن حيث الطهر ومن حيث صفاء الروح؟!

أشك في هذا كله!

نعم إنني أشك في نفسي، وفي قدراتي على إصلاح العالم، وقدراتي على مواجهة شهوات نفسي ورغباتها؛ فمن الذي إذاً رأى فيّ كل هذه الخوارق والعبقرية؟! حدّث (الفتى) نفسه في حيرة.

قلق مستبد بهذه الروح، ونظرات مفكرة هائمة في طريق العودة بعد يوم من الاعتصام في خلوة برية مع مجاميع لا رابط بينها سوى خيط سحري لا يعلم كنهه حقيقة، وكأن شيئاً ما يخفى لا يكاد يبين عن غايات بعيدة تنطوي عليها نفوس الكبار، وبدأ قلق ممض يتسرب إلى نفس (الفتى) في طريق العودة هذا..

وكأنما انبلج صبح جديد أضاء كلمات حفظتها أذناه في انفراد أحدهم به: احفظ (المعالم) وتذكر أنك مهيأ للعب دور ما!!

لا.. لا أريد أن ألعب هذا الدور! فأنا لا أجيد العمل السري، ولا أجيد الهدم، ولا أجيد الاقتحام المجاني الأهوج في سبيل إعلاء ما أؤمن به..

إنني - قال الفتى لنفسه - مسالم جداً، وأنيس جداً، ولطيف جداً، وشاعري جداً، وتعصف بي شهوات الجسد عصفاً؛ ألا يكفي هذه الحرب الداخلية العنيفة بين هذه الرغبات الشيطانية المتمردة النهمة وبين هذا الطهر وهذه الملائكية التي تكسو محياي!!

ألا يكفي ما أنا فيه من صراع واضطراب وقلق وتمزق!

ربما ابتدأت بوادر طلاق بعد كلمات هامسة موصية بحفظ (معالم على الطريق) وتذكر الدور القادم الذي ينتظر (الفتى)!

نعم لقد بدأ التفكير الجاد في الاستقلال الفكري بعيداً عن وصاية الجماعة؛ التي تريد دفعه في طريقها لا في طريقه الذي كان يؤمن به؛ هم يرون ويحلمون بمجتمع آخر ربما قام على أنقاض هذا المجتمع الجاهلي كما يزعمون؛ وهو يرى أن الخلاص الفردي، وطهر الذات، ونقاء أشواقها غايته في هذه الحياة. لقد بدأ الطلاق؛ فليبحث عن ذاته إذاً بعيداً عن الوصاية..

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام كلية اللغة العربية

ksa-7007@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد