Al Jazirah NewsPaper Friday  05/06/2009 G Issue 13399
الجمعة 12 جمادىالآخرة 1430   العدد  13399

يحيا العدل

 

بينما أنا ذات أصيلٍ أتجول في شوارع المدينة وأبحث عن أفضل مكانٍ لأرقب غروب ذلك اليوم، فهذه هوايةٌ لي منذ زمن.

فجأة تعطلت سيارتي عطلاً لا يعيقها عن المسير فاتجهت بها إلى المهندس، الذي فرح بمصيبتي أشد فرح. وأخذ يثرثر بلهجة بنغالية أفهم منها شيئاً وأترك..

لكنني خلصت معه في النهاية بأن أذهب وأعود بعد ساعتين لأجد سيارتي قد أُصلحت..، وخطرت ببالي فكرة،، سأترجل مشياً على الأقدام.

وبدأت بهواية أخرى هي المشي، وابتعدت كثيراً عن زحمة السيارات وصخب الأبواق والمنبهات. وفجأة اعترض طريقي كلب يشوب بياضه شيء من حمرة. ودون سابق إنذار، بدأ الكلب بالنباح، وهاجمني، فقلت ألا أيها الكلب: أفسح لي طريقي، وابتعد عن وجهي لأبلغ وجهتي.

فنبح نباحاً عظيماً، أخرج كل قطط السراديب من هنيء سكونها ونعيم نومها، وجعلها تعيش أزمة قلق الجوار. أو قلق الدور، حيث أيقنت إن الدور قادم عليها لا محالة ولا محاولة.

فخطرت ببالي فكرة،، لنتحاور، أو لنتحادث، فقد استفيد ولو بعض شيء، كل ما في هذا الوجود من بشر وشجر وحجر وغيره، كل شيء لابد أن يسديك فائدة لحياتك، ثم أليست الحياة مدرسة.

فصحت بأعلى صوتي: ياكلب...

فغضب مني وهاج قائلاً... بل الكلب أنت قبحك الله.

قلت: هدئ من سخطك ودعنا نتفاوض، ثم ماذاك ألست كلباً..

قال: قل لي يا أيها الكلب، ب ال التعريف التي تستخدمونها. إن إطلاقك لاسمي هكذا يحيله توبيخاً لا مناداةً.

- ما هذه الحدة يا سيد..

- أنتم معشر البشر من أذلنا نحن الحيوانات. وأحال أسماءنا لأوصاف توبيخٍ وتقريع. ماذنب الذئب وما علاقته بفساد أولادكم وتحرشاتهم الجنسية، كيف تحيلونه يريد أن يأكل أغنامكم القاصية تقصدون بذلك بناتكم في كل محفلٍ ومجمع. والحقيقة التي لا تعونها أن الحمار فيكم معشر البشر ليس هو البليد كما تزعمون، بل الإنسان الصبور الخدوم، والكلب ليس بالبذيء، بل الوفي الصديق.

في الماضي، لم يغضب سلطانكم من ابن الجهم إذ ناداه ب

أنت كالكلب في حفظك للود

وكالتيس في قراع الخطوب

لكن حاشيته احمروا سخطاً وغضباً، أتعلم أننا نعز شاعركم هذا ونفتخر به إذ إنه لا زال متمسكاً بقصائده الحيوانية - وهذا شرف له -

حيث إنه عاد بعد عام للسلطان ليقول:

عيون المها بين الرصافة والجسر

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

فما زال يرفع من شأن الحيوان. على كل حال نحن نشكر فيكم معشر العرب، ابن المقفع حيث ترجمنا في كليلة ودمنة، وأحمد شوقي إذ أنطقنا في قصائده.

نحن نشكر لهم شيء من اهتمامهم، مع الكثير من التحفظ في كل ذلك، فالغزال والمها والظبي التي ماحضرت أمسية غنائية ولا شعرية إلا وتغزلتم بهم.

- وهل هناك أمسيات ياسيدي الكلب ؟!.

- ليست في بلادكم هذه، لقد حضرت كثيراً في بلد الكنانة وفي الشام، التي قال عنها شاعركم:

بلد الخلاعة والمجانة والهوى

ومحل كل فتوة وفتاء

ثم إني أرجوك أن تستمع لنباحي هذا، أليس من أدب الحوار.. الإنصات. ولا تحاول يا آدمي أن تغير الموضوع الرئيس.

- تفضل، انبح، وكلي آذان صاغية.

- ياسيدي البشري، أنتم أغبياء لدرجة كبيرة، تشبهون أجمل ما في الأرض من عذارى بحيوانات صحراوية ضامرة جوعاً وعطشاً. تقولون بأنهن يجفلن كما الظباء.

قلي يا آدم، هل تحب في معشوقتك، بأنها تجفل كما ريم الفلا، أم تحب منها بأن تدعوك هي لإحياء ليلة سعيدة بالنباح. أقصد بالغناء. واعذرني على الترجمة فأحياناً يأخذني الحماس لنطق الكلمات بلساني.

لا تحاول إقناعي، لقد كنت البارحة أمام بيت شاعركم العظيم، وجدته يكتب قصيدة ً لمحبوبته، أو لإحدى محبوباته بالأصح، ذكر أنها كالريم، وكالشادن، وكالظبي، وكالغزال. وحينما سألته، هل تعرف هذه الحيوانات يا أبا الشعر. قال: لا، ولكن العرب تتغزل هكذا،

لماذا تريدون تقليد آباؤكم دائماً، مع أنه لا شبه بينكم في الحياة ولا حتى في اللغة.

وتحفظ آخر، هل أنجز البشر من عرب وعجم تحكيم بلادهم وتسيير أمورها حتى يتولون تنظيم شؤون الغابة. أسألك بربي، من قال إن الأسد ملك، وأن الثعلب منافق، صدقني، أنا أعرفهم جميعاً لا أضعف ولا أبسط من ثعلب.

والأسد الذي أحطتموه بهالةٍ إعلامية وبلغتم به 150 لقباً إنما هو لا شيء، صدقني لست مغروراً، ولكن الأسد لا شيء. هل سمعت بالكنجر الأسترالي، الذي لا يستقر في مكان، من خفةٍ ورجةٍ فيه، ويحمل ابنه في جيبه. أنه أفضل لدي من هذا الملك الأسد المبجل عندكم.

صدقني لا علاقة لنا بالتركيب السياسي، حتى يحيلنا هذا المثقف إلى أمثلة غير صريحة لواقعه، سأخبرك بشيء جديد، أتعلم أننا من قتل ابن المقفع، نعم قتله الخليفة العادل بعد أن نظر في أمرنا بعين العدل، وليحيا العدل.

- يا أخي، عفواً، يا كلب. أو يا أيها الكلب، دعنا من الشعراء فهم باعة كلام وحكم، دونما تنفيذ. وهذا ما أثبته القرآن ثم أثبتته كل دراسات الشعر والشعراء من تناقض ٍ، وكذبٍ وقولٍ يجانب فعلاً.

- (وبضحكٍ نباحي قال:) يا آدم إذا كان هذا هو حالنا مع مثقفيكم فإن العامة يسبون بعضهم بأسمائنا، - وأطرق الكلب قليلاً ثم عاود القول: ماسمك ياهذا فقد لمست من حديثي معك وجلوسك هنا معي بأنك آدمي متواضع ومنفتح على الآخر مهما كان جنسه ومتقبل للحوار.

- قلت: هذه مجاملة، أحتى أنتم معشر الكلاب تداهنون، أسمي نايف.

- فضحك كثيراً وقال: قبحت يانايف. إذاً أنا أفضل منك بكثير، أما تعلم بأنني ذُكرت في القرآن غير مرة.

- نعم أعرف، ولكن ليست كلها مدحاً، فأحدها بأنك تلهث مهما كنت.

- حريٌ بك يانايف كشخص درس من الطب شيئاً أن يعرف ما يسمى بفسيولوجيا الجسم، لن يضرني أن تكن هذه شيء من فسيولوجيا جسدي. أنتم معشر البشر لأجسادكم فسيولوجيا غريبة، لا نتفق معها أبداً، كيف تمشون برجلين فقط، وكيف تستبدلونهما بمركبات وطائرات.

- يا سيدي هذه نعمٌ من الله علينا، فالحمد لله.

- وأنت ياسيدي، هذه خلقة الله لنا، فالحمد لله.

نايف خلف الفريدي

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد