القاهرة - خاص بـ(الجزيرة)
دعا معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ إلى إحياء فقه المقاصد الشرعية والأولويات، وتناول معاليه موضوع (المقاصد الشرعية) إبان عقد المؤتمر العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في دورته الحادية والعشرين بالقاهرة، والذي اختتم أعماله يوم الاثنين الماضي.
وأكد الوزير صالح آل الشيخ أن المقاصد الشرعية مرتبطة بمصالح المجتمع، وتعمل على تحقيقها، وأن شريعة الله جاءت لتحقيق هذه المصالح، معتبراً موضوع (المقاصد الشرعية) من أبرز الموضوعات في الوقت الحالي، خاصة أن هناك من تشدد في دراسة علم المقاصد ومن فرط في ذلك، وقال: يجب النظر إلى كلام العلماء في هذا الأمر، وأضاف أن المقاصد الشرعية هي الغايات التي أرادها الشارع في تشريعه لتحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة.
ولأهمية هذا الموضوع، ولمعرفة المزيد عن (المقاصد الشرعية) جاء حوار (الجزيرة) مع معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد لنتعرف بشكل شمولي عن علم المقاصد.. فماذا
قال معاليه؟
* ماذا يُعنى بالمقاصد الشرعية؟ وما أهميتها؟
- نعني بالمقاصد الشرعية: المقاصد التي اعتبرها الشرع، ورعاها فيما سن، وشرع من الأحكام، وأهمية هذا الموضوع في الوقت الحالي ترجع إلى عدة أسباب، أهمها:
أولاً: أن علماء السلف من القديم إلى يومنا لم يزالوا يعتبرون المقاصد في أحكامهم وفي فتاويهم، فتارة ينصون على ذلك، وتارة يعتبرونه في نظرهم إلى الأحكام الشرعية بعامة، ففهم كلام السلف، وحمل متشابهه على محكمه، ودراية مقاصد الأئمة بأحكامهم، وعدم الاستدلال بالمتشابه من ذلك، أو الاستشهاد بالمتشابه - على المحكمات، كل ذلك أمور تدرك بمعرفة مقاصد الأحكام الشرعية التي رعاها الأئمة.
ثانياً: أن كلمة المقاصد الشرعية كثر تناولها في هذا الزمن، واعتنى بها كثيرون بالتأليف والتصنيف والرسائل الجامعية أو البحوث فيما دون الرسائل الجامعية، والناس فيها ما بين مُفْرط ومفرِّط، وهذا تبع لمأخذ قديم عند العلماء في النظر إلى العلل والمعاني المستنبطة من الأحكام، وهم جمهور أهل الفقه، وهناك من لا ينظر إلى العلل، وهم المتمسكون بالظاهر المعروفون باسم الظاهرية؛ فإن مبنى فهم علم المقاصد على معرفة المعاني والغايات والعلل التي بنى عليها الشارع الأحكام، ومن يقول بالظاهر لا يأخذ بالعلل، وينفي التعليل في أفعال الله - جلّ وعلا - الكونية، والشرعية؛ ولذلك فإن من قال بالظاهر في كثير من المسائل فإنه لا ينظر إلى مقصد الشارع من تحريم المحرم، أو من إيجاب الواجب، وإنما يقول: نقتصر على ظاهر اللفظ، وهذا تلاه ونتج عنه أن جعلت مسائل من الواجبات، وهي عند عامة أهل العلم من المستحبات، وجعلت مسائل من المحرمات، وهي عند عامة أهل العلم من المكروهات، وحصرت أصناف ارتبط بها التحريم عند أهل الظاهر، وعداها الجمهور ممن يعتبر العلل والمقاصد إلى ما يشبهها وما يماثلها، ويشترك معها في العلة والمعاني، وقابل هؤلاء أهل النظر والرأي الذين تركوا الآثار، وتركوا ظاهر الدليل، واعتبروا المقاصد والقواعد العامة بحسب اجتهاد إمامهم، وهم معروفون بأهل الرأي في المدرستين المشهورتين في المدينة والكوفة، وهؤلاء قابلوا من تمسك بالظاهر، وتركوا العمل بالأحاديث والآثار؛ لأجل مخالفتها للقواعد العامة التي فهموها من الشريعة والمقاصد التي استنبطوها منها، وتوسط جمهور أهل الفقه من أهل الحديث، فأعملوا الآثار والأحاديث والنصوص، وأخذوا بالمقاصد، فكانوا وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء، كما خص الله - تعالى - هذه الأمة بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، يعني: عدلاً خياراً؛ لأن الأوسط هو الأمثل والأحسن والأعدل في فهمه وكلامه وعقله وإدراكه، كما قال - جلّ وعلا - مثنياً على قول أوسط الأولاد في قصة أصحاب الجنة {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ}. أوسطهم، يعني: أعدلهم مقالاً، وأعقلهم رأياً، وأفهمهم في المدارك؛ لهذا صار المصنفون والمؤلفون والكاتبون بين هذه الأنحاء الثالثة في الأحكام الفقهية بعامة، وفي تناول هذا الموضوع بخاصة، وإن كان الأكثر ممن كتب على اعتبار المقاصد وعلى اعتبار الآثار على طريقة الجمهور.
ثالثاً: أن موضوع المقاصد مرتبط بالمصالح، والمصلحة التي اعتبرها الشرع مطلوب تحقيقها؛ لأن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، والمصالح أنواع، منها: مصلحة معتبرة بالشرع، ومنها مصلحة ملغاة، ومنها: مصلحة مسكوت عنها لم يعتبرها الشرع، ولم ينص على إلغائها، وهي التي سماها طائفة من العلماء بالمصالح المرسلة. وهذا النوع من البحث في المصالح توسع الناس فيه في هذا الوقت، وهم فيه صنفان: غالٍ فيه، ومجافٍ عنه، ومنهم من زعم أن الشريعة تبع للمصالح، وليست المصالح تبعاً للشريعة، بل جعلوا أن المصلحة إذا وجدت فثم الشرع، وهذا خلاف المقصود من علم المقاصد؛ لأن علم المقاصد الشرعية يحدث يقيناً عند الفقيه، وعند طالب العلم بأن الشريعة جاءت بالمصالح، وبالتالي فإن المصالح تبع للشريعة، فحيث ما وجد الشرع ووجدت أحكامه، فثم المصلحة.
رابعاً: أن طائفة من فقهاء العصر، وعدداً من الفئات والجماعات المهتمة بالدعوة الإسلامية في أصقاع كثيرة تعتني بعلم المقاصد؛ لأجل النظر فيما تعامل به من حولها من المجتمعات، وفيما تعامل فيه أفرادها من التنظيم والتربية، فاعتنى طائفة من الدعاة وطائفة من الجماعات بعلم المقاصد، لا لأجل البحث في الاجتهاد الفقهي، ولكن لأجل فهم روح الشريعة، ومقاصد الشريعة في التعامل في المجتمعات المختلفة، وفي التعامل مع الأفراد في التربية والتعليم، وهؤلاء منهم المتوسط، ومنهم الغالي، ومنهم الجافي في أنحاء شتّى تعلم من الواقع. لهذا فإن البحث في مقاصد الشريعة والدخول فيه يستوجب أن يكون بحثاً مطولاً حتى يفهم طالب العلم ما يتصل بهذا الموضوع الذي ربما كان غامضاً عند الأكثرين.
* اختلفت الآراء حول المقصود من المقاصد الشرعية، كما اختلفت تعاريف العلماء لها، نريد تقريب هذا المصطلح للناس؟
- هذا صحيح، لقد اختلفت تعاريف العلماء للمقاصد الشرعية، ولتقريب ذلك للناس نقول: إن المراد بالمقصد هو: الغاية، أو الحكمة التي من أجلها شرع الشارع أحكام الشريعة. ولذلك عرفها بعض العلماء بأنها: المعاني التي رعاها الشرع في وضع الشريعة. ومنهم من قال: هي الغايات والأسرار التي نظر إليها الشارع في سن الشريعة. ومنهم من قال: إن المقاصد الشرعية هي الغايات التي أرادها الشارع في تشريعه لتحقيق مصالح الخلق في الدنيا والآخرة. وهذا تعريف حسن ومنضبط في الجملة. فمعرفة المقاصد الشرعية هي: معرفة الغاية، والحكمة من تشريع بعض الأحكام، كمعرفة الحكمة من فرض الصلاة والحج، وكمعرفة الحكمة من إحلال البيع، وتحريم الربا، وكمعرفة الحكمة من تحريم الجمع بين المرأة وأختها، والمرأة وعمتها، أو خالتها، وغير ذلك.
والنظر إلى المقاصد الشرعية يفيد كثيراً الباحث والفقيه في الشريعة، وبعد تعريف المقاصد بتقريب، ينبغي أن نعلم أن كلمة مقاصد شرعية ما ظهرت إلا في أوقات متأخرة، لكنها كانت معروفة عند الأولين ممن ألف في أصول الفقه، وكانت موجودة في بحوث القياس في الكلام على العلة، والنظر في المناسب من مسالك العلة؛ لأنهم نظروا إلى أن الشريعة ارتبطت بعلل، وهذه العلل في الأحكام تارة تكون ضرورية، وتارة تكون حاجية، وتارة تكون تحسينية، فأصل المبحث أصولي، ثم اعتنى به من تخصص في الفقه من أهل الأصول، فأبرزه أكثر، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وقبلهما العز بن عبدالسلام في القواعد، وبعد هؤلاء الشاطبي في كتابه المشهور الموافقات. فإذاً مبحث المقاصد الشرعية في أصله هو مبحث في القياس، لكن الواقع أن حقيقة المقاصد الشرعية ليست هي حقيقة العلة في القياس؛ وذلك لأمور متعددة، نذكر منها على سبيل المثال: أن القياس يبحث فيه عن العلة التي تكون جامعة بين حكم مسكوت عنه وحكم منصوص عليه، فيكون استخراج العلة لأجل أن يحكم على مسألة مسكوت عنها كما هو معروف في مبحث القياس، والقياس في هذا المعنى صار قياس علة، وعند الفقهاء وأئمة الاجتهاد القياس أعم من ذلك، فقد يكون قياس علة، وقد يكون قياس معنى، وقد يكون قياس قاعدة وشمول، وهذا الذي يجعل العلماء يذكرون القياس تارة في أبواب العبادات، ويذكرون القياس تارة في أبواب أخر لا لأجل أن المعني قياس العلة، لكن المعني القاعدة التي تجمع هذا وذاك، وعلى هذا فالغرض من مقاصد الشريعة أوسع من استخراج العلل التي من أجلها نعدي الحكم من منصوص عليه إلى مسكوت عنه، وهذا يحتاج إلى نظر من جهة أخرى لإيضاحه، وهو أننا ننظر مثلاً إلى ما أوجب الله - جلّ وعلا - من جلب المصالح، ودرء المفاسد في أحوال العباد، وهذا مقصد من المقاصد العامة في تشريع الله - جلّ وعلا - فقد أمر بالإصلاح، ونهى عن الإفساد، قال تعالى:{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}، وقال - جلّ وعلا - مخبراً عن شعيب {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ}، وقال - تعالى -: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} ونحو ذلك من الأدلة، وهذه لا يمكن أن تسمى عللاً لتعدية حكم منصوص عليه إلى حكم مسكوت عنه بجامع هذه العلة؛ لأن هذا مقصد عام من التشريع، فإقرار الحق ورفع الظلم، وتحصيل المصالح ودرء المفاسد، من المقاصد العامة، فهذا يبين أن المقاصد الشرعية أو مقاصد الشريعة أعم من كونه بحثاً في العلل التي يبحثها القياسيون في مبحث القياس، أو ينظر إليها الفقهاء في الأحكام القياسية، بل مقاصد الشريعة أهم وأعظم وأكبر من أن تكون محصورة في العلة التي يكون فيها القياس، لكن العلماء الذين بحثوا المقاصد الشرعية، منهم من يبحثها ناظراً إلى المعنى القياسي، ومنهم من يبحثها ناظراً إلى استخراج الحكم وأسرار الشريعة من جهة بيان الإعجاز التشريعي، ومعرفة التشريع، ومنهم - وهم الأئمة المجتهدون - من ينظر إلى المقاصد؛ لأجل أن تستوعب الشريعة الأحكام التي يحتاجها الناس مهما تطاول الزمان، وهذا القسم الأخير هو المهم في النظر إلى علم المقاصد الشرعية، إذاً فالفائدة من علم المقاصد الشرعية والعناية به من جهة أن المقاصد الشرعية يحتاجها العلماء لأجل أن تستوعب الشريعة كل ما يحدثه الناس من أقضية مهما بلغت، فقد قال عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى - تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. وهذا الكلام يمكن أن يحمل على عدة معانٍ، منها: أن علماء الشريعة لا يقفون بالشريعة عندما نص عليه الأوائل، بل كل ما استجد بالناس أحوال نظروا في روح الشريعة والمقاصد الشرعية التي رعاها الشارع، ثم حكموا بالأحكام الجديدة بما تقتضيه الآثار والأدلة، وبما يقتضيه النظر في المقاصد؛ لهذا فإن تعريف المقاصد شمل مسائل، فقلنا مثلاً في التعريف: إن المقاصد هي الغايات التي رعاها الشارع في تشريعه لمصلحة الخلق في الدنيا والآخرة، والغايات هذه ليست لكل أحد، فالغاية قد تكون معلومة، وقد لا تكون معلومة؛ لأن عامة الناس لا يعلمون المقاصد.
* هل معرفة المقاصد شرط للمسلم في التعبد؟
- معرفة المقاصد ليست شرطاً في التعبد، فيجب أن تتعبد الله بما شرعه، سواء علمت الحكمة، أو لم تعلمها، وتتمثل للأمر والنهي، سواء علمت أو لم تعلم {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} وهذا هو الأصل لعامة الناس، لكن الذين يعتنون بالمقاصد هم العلماء الذين يبحثون في الاجتهاد والأحكام والفتوى؛ لمعرفة الغايات التي رعاها الشارع، ولم يترك النظر فيها إلى الاجتهاد، والعلماء رعوا ما رعاه الشارع، فمن اعتبر مقاصد لم يدل الشرع على اعتبارها، بل دل على إلغائها فإنهم يكونون حينئذ مشرعين لما دل الشارع على إلغائه، وذلك مثل البدع، كمن يستحسن البدع، ويقول مثلاً: إنها مما يتقرب به إلى الله - جلّ وعلا -، وفيها حثّ النفوس على التعبد، وهو مقصد مطلوب. فنقول: هذا مقصد لم يعتبره الشرع، وإنما الشرع حكم بإلغاء هذا المقصد؛ لأنه مقصد أو مصلحة ملغاة لأنها كانت في زمن التشريع ونزول الوحي ولم يدل عليها الشارع ولا أذن في إحداثها، فقولنا في التعريف: التي رعاها الشارع في تشريعه يفيد أنه لا بد أن يكون هناك دليل شرعي واضح على اعتبار هذا المقصد، وعلى مراعاة هذا المقصد، وعلى استخراج هذا المقصد.
* البعض يرى أن المقاصد الشرعية التي رعاها الشارع متعلقة بالمكلف فقط؟
- المقاصد الشرعية التي رعاها الشارع في الأحكام أكبر من أن تكون متعلقة بالمكلف فقط؛ ولهذا إذا نظرنا مثلاً في مبحث تلوث البيئة فإنه يبحث من جهة المقاصد، ومبحث استغلال خيرات الأرض نبحثه في المقاصد، ومبحث العناية بالحيوانات راجع إلى مقاصد الشريعة ونصوصها وهكذا، وكذلك إذا نظرنا إلى أحوال المكلفين في علاقة بعضهم ببعض، في تصرفاتهم أو تعبداتهم، فإن هذا أيضاً مرعي في جانب المقاصد الشرعية. والمسألة الأخيرة في التعريف أن علم المقاصد متعلق بمصالح الخلق في الدنيا والآخرة، ومعلوم أن الخلق منقسمون إلى مكلفين وغير مكلفين، ومن كان من المكلفين فإن مصالحهم متعلقة بالدنيا والآخرة، أما غير المكلفين فإن مصالحهم منوطة بما فيه صلاحهم في الدنيا، فالمقاصد الشرعية اعتبر فيها مصالح العبد في الآخرة، لا يستنتج، ولا يعرف غاية إلا النجاة من النار، كما قال - جلّ وعلا -: {وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}، وقال - جلّ وعلا -: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً}، وكذلك قوله: {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ}، ونحو ذلك من أدلة اعتبار، أو النظر إلى الآخرة، وهذا مهم في أن ينظر العبد إلى أن الشريعة في أحكامها - ما عقلنا منها، وما لم نعقل بحسب تفاوت العلماء - رعت مصلحتك في الدنيا والآخرة معاً، وإن لم تدركها. فصلاح الأرض بالعمل بالشريعة، وفساد الأرض بعدم اعتبار الشريعة، وصلاح الدنيا والآخرة باعتبار الشريعة، وفساد الدنيا والآخرة بعدم اعتبار الشريعة.
* هلا تفضلتم - معاليكم - بذكر بعض أدلة اعتبار المقاصد الشرعية؟
- الأدلة التي تدل على اعتبار المقاصد الشرعية، وقد بحث ابن القيم - رحمه الله - في مفتاح دار السعادة ذلك بحثاً موجزاً، وقال: لو أن الأدلة تبلغ مائة أو مائتين لسقناها، ولكنها تبلغ ألف دليل من الكتاب والسنة، أو تزيد بطرق مختلفة. وهذا واقع؛ لأن المقاصد التي قصدها الشرع، منها مقاصد عامة، ومنها مقاصد خاصة، وهذه المقاصد الخاصة باعتبار كل نوع من أنواع التشريع، فالعبادات لها مقاصد: الصلاة المفروضة في أحكامها، والجماعة والعبادات المفروضة لها مقاصد، والنوافل لها مقاصد، وثم أدلة تدل على هذا كله، وكذلك إذاً انتقلت إلى المعاملات، فعقود التبرعات من الوقف والوصية والصدقة ونحو ذلك، لها مقاصد، وكذلك التعامل مع الناس في الأنكحة والكفالة والنفقات لها مقاصد، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، كما ذكر ابن القيم، لكن من الأدلة التي دلت على اعتبار المقاصد أن الله - جلّ وعلا - نص في أكثر من آية على أن هذه الشريعة - شريعة الإسلام - جاءت بموافقة الفطرة، ورفع الحرج، قال - جلّ وعلا -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وقال - تعالى -: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . ونحو ذلك مما فيه رفع الحرج، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} وهذا مقصد عام؛ ولهذا جاءت رسالة محمد - عليه الصلاة والسلام - برفع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، عن هذه الأمة.
* المصالح والمفاسد للأمة والفرد تختلف من فترة لأخرى، ومن زمن لآخر، ومن مجتمع لمجتمع، فكيف يمكن ضبط هذه الأمور شرعياً؟
- الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، وهذه المصالح والمفاسد تارة تكون متعلقة بأمور العبادة، وتارة تكون متعلقة بأمور المعاملات، أو بأمور الجنايات، أو أمور متعلقة بمسائل الأطعمة إلى آخره. فتحصيل المصالح ودرء المفاسد من أعظم مقاصد الشريعة، بل زعم طائفة من العلماء، ومنهم ابن عبدالسلام في قواعدهم أن الشريعة في جميع أحكامها ترجع إلى هذا الأصل، وهو رعاية المصلحة ودرء المفسدة، وهذا يحتاج إلى مزيد بحث، وهو صحيح إذا نظرت إلى المصلحة باعتبار واسع يشمل مصالح الدنيا والآخرة، أي: أن الشريعة أمرت بالاجتماع، ونهت عن الافتراق، فاجتماع الناس في الدين وفي الأبدان مقصد من مقاصد الشريعة؛ ولهذا جاء الأمر بالاعتصام بكتاب الله، كما قال - تعالى -: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} لا تفرقوا في الدين بأن تشرعوا ما لم يأذن به الله، وأن تتعبدوا بما لم يتعبد به نبينا - صلى الله عليه وسلم - ولا تأتوا بما لم تقره الشريعة من الأحكام، فتحكموا بغير شرع الله، وكذلك الاجتماع في الأبدان بألا يخرج على ولي الأمر، وألا يسعى عليه، وأن يجتمع الناس عليه؛ لتكون لهم الهيبة والقوة على أعداء دينهم، وبالمقابل جاءت الشريعة بالنهي عن الفرقة في الدين {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وكذلك الفرقة في الأبدان حتى لا يكون الناس فوضى لاسراة لهم، كما جاءت الأدلة الكثيرة بالأمر بالاجتماع، والنهي عن الافتراق. ومن مقاصد الشريعة العامة - أيضاً - الأمر بالعدل، والنهي عن الظلم، قال - جلّ وعلا -: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}، وقال - جلّ وعلا -: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، وقال نبينا - عليه الصلاة والسلام -: قال الله - تعالى -: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). وقال - جلّ وعلا - في الحكم والتحاكم: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. فتبين أن من مقاصد الشريعة رفع الظلم بأنواعه: الظلم في حق الله - جلّ وعلا - بالشرك به، والظلم في حق نبيه - عليه الصلاة والسلام - والظلم في حق العباد فيما بينهم، والظلم في حق النفس بألا تسعى فيما يسعدها في الآخرة. فالشريعة نفت الظلم، وسعت إلى إبطاله، وشرعت ما يضاد ذلك من العبادات والأحكام التي تخلص المكلف من داعية هواه، وأمرت بالعدل، قال - تعالى -: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}. قال طائفة من السلف في هذه الآية من سورة النحل: إنها تشتمل على جميع الشريعة؛ لأن المقصد العظيم من الشريعة هو إقامة العدل، والعدل بمعناه العام هو: أن تعطي كل ذي حق حقه، أن تعطي الله - جلّ وعلا - الذي له أعظم الحقوق حقه بعبادته وحده دون ما سواه، وهذا مقصد دعت إليه الشريعة، بل إنما جاءت الرسل لهذا المقصد الأعظم، وهكذا أنواع العدل الأخرى من المقاصد التي رعتها الشريعة، فقد جاءت بتخليص المكلف من داعية هواه، والقرآن العظيم ليس كتاب فلك، ولا كتاب حساب، ولا كتاب طبيعيات، وإن كان فيه من أصول هذه العلوم ما فيه؛ لأن هذه العلوم جميعاً لا يدخلها الهوى، وإنما يدخلها الخطأ والصواب. فالكتاب والسنّة لم يأتيا لبيان هذه الأمور التي لا يدخلها الهوى، ولهذا لما قال - عليه الصلاة والسلام - للذين يؤبرون النخل: لو تركتموه لصلح أو نحو ذلك، فتركوه، فأتوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا له: إننا تركناه بحسب أو على ما قلت، فخرج شيصاً. كما جاء في الصحيح فقال - عليه الصلاة والسلام -: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وفي رواية أخرى، وهي أثبت من حيث السند قال: (إنما ظننت ظناً فلا تأخذوني بالظن)، وهذا منه - عليه الصلاة والسلام - تشريع لا لأجل أن يخسرهم، وإنما صار منه هذا بأمر الله - جلّ وعلا - لكي يحدث للأمة تشريعاً بأن هذه الشريعة إنما جاءت لتخليص المكلف من داعية هواه في الأمور التي يدخلها الهوى.
* وكيف تخرج الشريعة ومقاصدها الناس من دائرة الهوى؟
- الشريعة جاءت بإخراج المكلفين من دواعي الهوى؛ وتقوية الإيمان حتى يخرج من داعية الهوى، ويستقيم التعبد لرب العالمين، فهذا مقصد عظيم من مقاصد الشريعة، ومن مقاصد الشريعة العامة أن يكون الناس بعيدين عن الخصومات، فجاءت بالقضاء، والفصل بين الناس فيما يختلفون فيه، كما جاءت بتقليل مسالك الخصومة، ولذلك تجد الشارع يقلل المسالك التي تفضي إلى خصومات؛ لأن الشريعة جاءت بجمع الناس، وبقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وبقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}، وبقوله: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}، وبقوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان) إلى غير ذلك من النصوص. وإنما يتحقق هذا الأصل العظيم والمقصد العام بألا يكون هناك سبيل للخلافات، ولهذا جاءت الأحكام الشرعية بتضييق منافذ الخلافات، ومن ذلك - مثلاً -: اعتبار الشروط الصحيحة في أكثر التعاملات، كالشروط في البيع، والإجارة، والنكاح، وغير ذلك، حتى لا تحدث بعد ذلك خلافات وخصومات، وإذا حدثت تكون قليلة، وغير مستعصية على الحل، كما أن الشريعة حرمت الجمع بين المرأة وأختها والمرأة وعمتها وخالتها، لأن الخلاف بين الزوجين في هذه الحالة سيفضي إلى قطع صلة الرحم، وانتشار العداوة والبغضاء بين الأقارب.
* ذكرتم معاليكم ما يتصل بالمقاصد الكلية العامة، نريد إلماحة وذكراً لبعض المصالح التفصيلية؟
- المقاصد التفصيلية للتشريع مما يتفاوت العلماء والمجتهدون في النظر إليه فترى بعض العلماء - وإن كان عالماً - يكون نظره للمقاصد ضعيفاً، فتجد فتاواه لا تستوعب الأزمنة والأمكنة؛ ولهذا نص ابن تيمية - رحمه الله - في أكثر من موضع على أن فقهاء الحديث هم الذين يرجع الناس إليهم؛ لأنهم يعتبرون الدليل والأثر، ويعتبرون المقاصد والمعاني؛ فتكون فتاواهم أيسر للناس، وأكثر مراعاة لصالحهم، ومثال ذلك أن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - يقول: ينعقد البيع بالمعاطات، في حين ذهب طائفة من العلماء إلى أن البيع لا ينعقد إلا أن يقول البائع: بعتك، ويقول المشتري: قبلت. أي: لا بد من اللفظ والصيغة. وفي هذا تضييق على الناس؛ لأن الناس متعارفون على البيع بالمعاطاة وبدون كلام. أما الإمام أحمد فنظر إلى أن مقصد الشارع من وجود البيع هو التيسير على الناس، وليس للشارع قصد في الصيغة بعينها، فكل ماعده الناس تراضياً فإنه يعد تراضياً، فإذا كان الناس عدوا من التراضي إدخال الريال في الآلة، ثم تخرج لهم علبة شراب فإن هذا يكفي؛ لأنه حصل به المقصود.
* لمزيد من الفائدة، لعلكم تذكرون أقسام المقاصد الشرعية؟
- من باب التقريب، نقول: إن العلماء قسموا المقاصد من حيث أهميتها إلى ثلاثة أقسام، أولها: مقصد ضروري، وهو أرفع المقاصد وأهمها، القسم الثاني: مقصد حاجي؛ لأن الناس يحتاجونه، ورعاه الشرع، الثالث: مقصد تحسيني تكميلي، وهذه الأقسام مرتبطة بالضروريات الخمس التي رعاها الشرع، وهذا الضروريات الخمس هي: أن الشريعة جاءت في أحكامها ومقاصدها بحفظ الدين أولاً، ثم بحفظ النفس، ثم بحفظ العقل، ثم بحفظ النسل، ثم بحفظ المال، وهي من حيث الأهمية على هذا الترتيب، هو ترتيب الجمهور، وإن كان في بعضه خلاف، لكن هذا هو ترتيب الجمهور والمعتمد عند المجتهدين. والمحافظة على كل واحدة من الضروريات الخمس من مقاصد الشرع، فالمحافظة على الدين مقصد من مقاصد الشريعة، والمحافظة على النفس من مقاصدها، والمحافظة على العقل من المقاصد، وهكذا.
وتظهر أهمية الترتيب السابق، وفائدته عند التعارض، فالمحافظة على الدين مقدمة على المحافظة على النفس، وإسقاط الجنين الذي نفخت فيه الروح محرم؛ للمحافظة على النفس والنسل، وهي مقدمة على المحافظة على المال كخشية النفقة أو الفقر، وكذلك إذا تعارضت المحافظة على النفس، مع المحافظة على المال، قدمت المحافظة على النفس، وإن كان فيها إتلاف للمال.
ثم إن تقسيم المقاصد إلى ضروري، وحاجي، وتحسيني، يلحق كل واحد من الضروريات الخمس، أي: أن المحافظة على الدين قد تكون ضرورية، وقد تكون حاجية، وقد تكون تحسينية، وكذلك يقال في المحافظة على النفس، والعقل، والنسل، والمال.
* ذكرتم معاليكم أقسام المقاصد، فكيف يتم التفريق بينها؟
- إن الشريعة حينما اعتبرت المصالح فإنها رعت في تحقيقها جهتين: الجهة الأولى: الإيجاد، والجهة الثانية: المحافظة عليها بإزالة المانع منها أو ما يؤثر فيها؛ فإنها مثلاً أوجدت المحافظة على الدين، ثم شرعت الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذي به ثباته، وشرعت الجهاد الذي به استمراره.
والمراد بالمقصد الضروري: أنه ما لا تقوم المحافظة على واحد من هذه الخمس إلا به، ولا تقوم الحياة إلا به. أما المقصد الحاجي فهو ما يحتاجه الناس في أن تكون حياتهم حياة هنية، وتسير بيسر وسهولة، فالمقصد الحاجي هو الذي يدخل فيه التيسير، ويدخل فيه رفع الحرج ودفع المشقة على العباد، فمثلاً لو أمر الشارع بالصوم في السفر لتحمله الإنسان؛ لأن المكلف لا يموت إذا صام في السفر، وكذلك إذا صلى أربعاً في السفر، كل صلاة في وقتها، لكن سوف تصيبه مشقة من ذلك، وكذلك إذا غسل رجليه في البرد القارس، فإنه إذا خلع الخف أو الجورب وغسل رجليه فلن يموت، ولكن تقع عليه مشقة، فمثل هذه الأمور اعتبر الشارع فيها الترخيص والتخفيف، وهو الذي سمي بالمقاصد الحاجية أو المقصد الحاجي. وأما المقصد الثالث - وهو التحسيني - فهو المتعلق بمحاسن الحياة، وبمحاسن العادات وبمكارم الأخلاق، مثل: أمور الأكل، والشرب، وأمور الكرم، وحسن الضيافة، وكذلك المسائل المعتبرة في تحسين حياة الناس. ومن المهم في هذه الأمور جميعاً أن الشريعة جاءت بشيئين: أولاً: إيجاد المقصد، والثاني: جاءت بالمحافظة عليه.
ونختم بذكر بعض المقاصد على وجه التفصيل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغرر، لأجل ألا يأكل الناس أموالهم بينهم بالباطل، قال - تعالى -: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} لكن الشريعة جاءت بإباحة اليسير من الغرر، ورخصت فيه؛ لأنه لا بد منه؛ فإنك لو أردت - مثلاً - أن تشتري بيتاً، فستشتريه مع جهلك بأساسات البيت وقواعده، وفي ذلك غرر، لكنه غرر يسير عفت عنه الشريعة تيسيراً على الناس، ولو حرمت الشريعة كل أنواع الغرر، حتى ما كان منه يسيراً لصار الناس في ضيق في معايشهم، ولما استطاعوا تبادل الأشياء فيما بينهم؛ لذلك أجازت الشريعة اليسير من الغرر في كثير من الأبواب، كالبيوع، والنكاح، وغيرهما، ومما ينبغي للعلماء والفقهاء ودارسي الفقه أن يعتنوا به: استخراج المقاصد الشرعية من العبادات، ومن الجهاد، ومن البيوع، والنكاح، وغير ذلك.