تطرقنا في الجزء الأول من طرحنا لمشكلة ماذا بعد الابتزاز لجوانب عدة حيث بينا خطورة الابتزاز وأنواعه والإجراءات المتبعة لمحاربة أساليبه كما استعرضنا العوامل المسببة لهذه المشكلة ورفعنا النداء بالتحرك السريع من قِبل جميع قطاعات المجتمع للوقوف أمام هذه المشكلة بالملامح الظاهرة منها والجذور المخفية منها.
كما نقلنا صوت أهل الاختصاص بضرورة وجود جهة يمكن للفتاة أن تتصل بها بسرية تامة وذات صلاحية وقدرة على التعامل مع مثل هذه الحالات، مع التوعية بدورها في المجتمع.
وفي الجزء الثاني من تحقيقنا نكمل ما بدأناه..ويظل هاجس اندماج الضحية في المجتمع هاجساً يقض مضجع جميع من مر بهذه التجربة المريرة كأول فرصها في العلاج وعن فرص اندماج الفتاة التي خضعت للابتزاز على عرضها بالمجتمع وما أشكاله؟ وما نصيب مفهوم الستر في الشريعة الإسلامية في تقبل المجتمع لهذه الحالات على أرض الواقع؟ أجابنا الشيخ موافي عزب من قسم الاستشارات في الشبكة الإسلامية بقوله المعروف ان الله - تبارك وتعالى الجليل جل جلاله سبحانه - أحاط قضية المرأة بسياج كبير من الاهتمام والعناية والرعاية، لأن الناس عبر تاريخهم يتأففون أن يتهموا في أعراضهم بأدنى نقيصة، ولذلك فإن الرجل العربي الأبي الأصيل قبل الإسلام كان يقدم على وأد ابنته ودفنها حية في التراب أو تحت التراب حتى لا تجلب له العار، لأن العرب كما تعلم لديهم من الأنفة ما يجعلهم يتأففون غاية التأفف من أن يذكر مجرد اسم أم الرجل في ميدان عام أو في مجلس عام، على الرغم من أن هذا فيه قدر من المبالغة إلا أنه موجود وواقع، وما زال موجوداً أيضاً في معظم البلاد العربية والإسلامية، انك إذا ذكرت أم الرجل كأنك أهنته إهانة بالغة، بل إننا نجد أن الأطفال الصغار في جزيرة العرب عندما يكون مع والدته أو مع أخته في السوق أو في مكان يقول (كنت مع الأهل) لا يقول (كنت مع أمي)،
وأحياناً يطلقون أيضاً على أختهم كلمة (الرضيعة)، لا يقول أختي مباشرة. وهذا كله يدل على حساسية قضية المرأة في حياة المسلمين، والقرآن الكريم بسط وأفاض، فلدينا سورة النساء الكبرى، ولدينا سورة النساء الصغرى ولدينا سورة الأحزاب، ولدينا سورة النور وغيرها من السور التي تتحدث عن حقوق المرأة وكيفية التعامل معها، فإذا ما التزمت الفتاة والتزم المجتمع هذا النمط الرباني الكريم، فإن هذه الأخطاء تكون قليلة أو معدومة، وانظر إلى عصر النبي المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام .
وأضاف الشيخ عزب وأما إذا ضعفت تلك الضوابط أو قلت أو انعدمت فإن الشر يُفتح على مصراعيه، وتحدث هناك تجاوزات يندى لها الجبين كما يحدث في الشرق وفي الغرب من حولنا، وأما إذا قدر الله- تبارك وتعالى - وكانت الفتاة عفيفة فاضلة طاهرة نقية ملتزمة بشرع الله- تبارك وتعالى- ليست امرأة سيئة- والعياذ بالله- فإذا ما تعرضت لهذا الابتزاز الذي يجعلها تفقد شرفها وتفقد عذريتها - على سبيل المثال- أو تفقد مثلاً عفتها حتى وإن كانت متزوجة، إذا تم الأمر بضغط وإكراه بعيداً، عن الإطار الشرعي، فإن الإسلام حقيقة لم يغفل هذا الحق، وبيّن أن الإكراه يرفع المؤاخذة شرعاً، فإذا كان الدين لا إكراه فيه، والنبي- عليه الصلاة والسلام- يقول: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فإذا ما أكرهت وأجبرت إجباراً ملجئاً لا تستطيع منه فكاكاً فإن الله- تبارك وتعالى- يعفو عنها، والمجتمع المسلم يراعي لها ذلك، ويتقدم كثير من الصالحين الأخيار- إذا علموا بذلك- للستر عليها، لأنهم يعلمون أن الستر عليها عبادة من العبادات وقربة من القريات، حيث إن النبي المصطفى محمد - صلى الله عليه وسلم- قال: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) وأحياناً قد يتزوج الرجل بامرأة ويرى أنها غير بكر في حين أنها أساساً عُقد عليها أنها بكر، فأيضاً تأتي هذه الحالة - وكثير ما تتكرر- فنجد أن الإسلام يوصي هذا الرجل بأن يستر عليها، لأن من ستر مسلمة ستره الله- تبارك وتعالى - في الدنيا والآخرة، خصوصاً إذا كانت قد تعرضت للإكراه أو الإجبار على ذلك. أما إذا كانت تفعل ذلك طواعية واختياراً فإنها تصبح جرثومة تدمر المجتمع القريب والبعيد منها، وتصبح مرضاً إذا انتشر أكل الأخضر واليابس، ولكن في حالات الإكراه والإجبار فإن الشريعة الإسلامية توصينا بالستر، وهذا ما فعله النبي - عليه الصلاة والسلام- عندما جاء سيد ماعز بعد ذلك ليطلب من النبي -عليه الصلاة والسلام- ألا يقيم عليه الحد، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: (هلا سترته بثوبك)، يعني لماذا جئت به، أو لماذا تركته يأتي ثم بعد ذلك جئتني لتشفع له، إن الشفاعة لا تصح إذا رفع الأمر للقاضي أو للحاكم، ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: كان الأولى بك أن تستره قبل أن يأتيني.
وأكد الشيخ موافي عزب أن الشريعة حقيقة تحافظ على هذه المسائل ما دام هناك إكراه، وتوصي بعدم فضح ونقل تلك الأخبار خارج إطارها أبداً، وأن تظل مستورة، بل إن الشرع يفرض عليها ألا تتكلم في ذلك مع أحد، حتى لا تفضح نفسها، وحتى لا تكون عُرضة للقيل والقال، حتى وإن وقع ذلك إكراهاً وإجباراً عليها وهي صغيرة وعُقد عليها، فلا يلزمها حقيقة أن تخبر زوجها بذلك، وإنما تجعل الأمر لله تعالى وإن قدر الله- تبارك وتعالى- وكشف أمرها فإنها تخبر زوجها بما حدث ويكون له الخيار أن يبقيها أو أن يطلقها، أما أن تفضح نفسها فإن العلماء عموماً يقولون الأولى أن تستر نفسها وعلى قدر صدقها وإخلاصها في توبتها سوف يجعل الله- تبارك وتعالى- لها مخرجاً. فمفهوم الستر في الشريعة الإسلامية إنما هو وجود الستر على مثل هذه الحالات التي - كما ذكرت لك- وقعت اضطراراً وابتزازاً وإجباراً وإكراهاً، أما سوى ذلك فإن الشرع يطالب المسلمين بلفظ هذه النوعيات والبحث لها عن علاج آخر بعيداً عن مسألة الستر، وإنما لا بد لها من وسائل أخرى لعلاجها.
وخلص فضيلته إلى قول ان الشرع أو ان الإسلام أو الشريعة الإسلامية أو المجتمع المسلم الفاهم الواعي لا يلفظ من اعتدى عليها بالقوة أو أجبرت على ممارسة الرذيلة تحت تهديد ملجأ، ومعنى (ملجأ) أنها إذا لم تفعل قتلت مثلاً، ففي هذه الحالة الشرع يوصي باستقبالها وعدم كشف سترها وعدم التخلي عنها، بل ويحث على سترها وعلى التزوج بها، حتى لا تُكلم مرتين في عرضها ثم بعد ذلك في حرمانها من أن تكون سيدة فاضلة في بيت مسلم تؤسس أسرة مسلمة طيبة مباركة.
نصيب الستر
ويتمم طرحنا هذا السؤال عن نصيب مثل هذه الحالات التي تعرضت للابتزاز من مفهوم الستر في الشريعة الإسلامية وأثر ذلك في تقبل هذه الحالات، حيث يقول الشيخ عزب نصيب مفهوم الستر واسع جداً حقيقة، والله - تبارك وتعالى جل جلاله- هو الذي يستر، فهو الستير- جل جلاله سبحانه- وأمرنا بالستر وأمرنا بعدم فضح العيب، وأمرنا بعدم اللمز، وأمرنا بعدم الغمز، وأمرنا بعدم التعريض، كل ذلك منهي عنه في مثل هذه الحالة، حتى لا نسيء إلى مشاعر هؤلاء فنجرح مشاعرهم أو نصيبهم بنوع من الذل أو الهوان نتيجة معصية هم لم يقترفوها بإرادتهم، فالنصيب واسع حقيقة، ومساحة كبيرة في الشريعة الإسلامية، بل النبي ينادي - عليه الصلاة والسلام-: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) وأي ستر أعظم من أن تستر امرأة تعرضت لهتك عرضها بالقوة والإجبار والغصب والإكراه!.. هذا من أعظم أنواع الستر بل ومن أعلاها وأرفعها درجة، ولكن شريطة أن نكون متأكدين يقيناً من أنه قد اعتدي عليها بالقوة وعنوة واغتصاباً، وليس رغبةً واختياراً ثم تأتي بعد ذلك لتدعي أن هذا الأمر وقع رغماً عنها.
التعامل مع الأخطاء
وفي سبيل خروجنا بالحل من هذه الأزمة التي تسبب بها الابتزاز لا بد من التسليم بمنهجية الإسلام في التعامل مع الأخطاء، وفي هذا الجانب طرقنا باب الدكتور إبراهيم ناصر الحمود عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء الذي أوضح أن الخطأ من طبيعة البشر كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
(كل أمتي خطاء وخير الخطائين التوابون) ولهذا حث الإسلام على المبادرة إلى التوبة من الذنب وعدم الإص على المعصية قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم (الله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من الأم بولدها) ومن الحث على التوبة قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا..) {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فالتوبة تجب ما قبلها والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وأضاف فضيلته فالإسلام يرغّب العصاة في التوبة ويحثهم عليها ومن تاب وصدق الله في توبته تاب الله عليه ومن حسنت حاله وصلحت أحواله بعد التوبة فلا ينظر له نظرة دونية أو نظرة فيها احتقار أو اشمئزاز كيف يكون ذلك وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حق المرأة الغامدية التي طلبت تطهيرها من الزنا بالرجم بالحجارة (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)، وأكد فضيلته أنه في رفض المجتمع للتائب من الذنب إعانة للشيطان عليه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم) ومن الأساليب الوقائية في هذا الباب نصرة المظلوم وردع الظالم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قالوا يا رسول الله ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً قال بزجره عن الظلم). كما وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم توبة بعض الصحابة عما وقعوا فيه من الخطأ ولم يحاسبهم عن أخطائهم كما حصل لحاطب بن أبي بلتعة حين أخبر قريشاً بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فعفا عنه وقال لعمر لما همّ بقتله (وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). وكذلك في توبة الرجل الذي وقع على أهله في نهار رمضان والأعرابي الذي بال في المسجد فما ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا بيده لا حراً ولا عبداً يقول أنس رضي الله عنه (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فوالله ما ضربني ولا كهرني) فنعم المعلم ونعم الموجه عليه الصلاة والسلام.
وخلص فضيلته إلى أنه من وقع في خطأ فإن تعاليم الإسلام تدعو إلى نصحه وتوجيهه وتقويمه لأن الرجوع إلى الحق فضيلة وخير من التمادي في الباطل. داعياً المجتمع إلى أن يعذر المخطئ لجهله ويرغب في توبته ليكون عضواً فاعلاً في مجتمعه فلا عصمة إلا لأنبياء الله ورسوله وكم من مذنب تاب الله عليه وحسنت حاله وكان له دوره في المجتمع وقصص التائبين خير شاهد على ذلك، فقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء. وإذا لم يجد التائب قبولاً من المجتمع فقد ينقلب على عقبيه وتسوء حالته أكثر من ذي قبل والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
* إدارة العلاقات العامة والإعلام بالرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر