كانت الضجة التي أثيرت بسبب قرار المحكمة الجنائية الدولية (ICC) بتوجيه الاتهام الرسمي إلى الرئيس السوداني عمر البشير بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور مثيرة للدهشة بعض الشيء. فالمحكمة على كل حال لا تملك وسائل خاصة بها لإلقاء القبض على أي شخص في السودان، فما بالك برئيس الدولة الذي يتولى قيادة القوات المسلحة في البلاد. وليس من المتوقع بأي حال أن يتدخل شخص آخر في السودان لتنفيذ عملية الاعتقال. ورغم أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو، يُعرِب عن ثقته في تقديم البشير إلى العدالة، فمن غير الواضح كيف قد يتم ذلك، ولكنه أمر ممكن.
رغم ما يبدو من عجز المحكمة الجنائية الدولية إلا أن العديد من زعماء الحكومات منهمكون في جهود مضنية لعرقلة وإحباط الاتهام. ولا يبدو أن هؤلاء الزعماء منزعجون؛ لأن الاتهامات غير عادلة، بل يبدو الأمر وكأنهم يعربون فحسب عن تضامنهم مع رئيس دولة زميل لهم.
ومن بين الذين يشجبون محاولة تقديم البشير إلى المحاكمة العديد من البلدان التي تنتمي إلى عضوية منظمة المؤتمر الإسلامي وعضوية الاتحاد الإفريقي، علاوة على بعض الدول القوية مثل الصين وروسيا. ولا يملك المرء إلا أن يخمن ما إذا كان بعض هؤلاء الذين يوحدون الجهود تحركهم خشيتهم من أن يواجهوا ذات يوم اتهامات مشابهة لتلك الموجهة إلى البشير الآن من قِبَل قضاة المحكمة الجنائية الدولية.
ورغم أن البشير قد يتمكن من تجنب الاعتقال بالحد من سفرياته الدولية ببساطة، فإن الضجة التي أثارها الاتهام ليست منافية للعقل. ذلك أن الاتهامات الموجهة إليه من شأنها أن تخلف أثراً مشيناً قوياً.
والحقيقة أن توجيه الاتهام إلى البشير من قِبَل لجنة من القضاة الذين يمثلون حكومات الدول المائة والثماني، التي تؤلف عضوية المحكمة الجنائية الدولية، بتحمل المسؤولية الرئيسية عن الجرائم التي ارتكبت في دارفور أثناء الأعوام الستة الماضية، تكفي في حد ذاتها لتقويض شرعية استمراره في الحكم. لقد تسببت هذه الجرائم في مقتل أكثر من ثلاثمائة ألف شخص، فضلاً عن النزوح القسري الذي فُرِض على 2.7 مليون شخص آخرين. وحتى لو نجح زملاء البشير من رؤساء الدول في جهودهم الرامية إلى إقناع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بتأجيل الدعوى - وهو أمر مستبعد إلى حد كبير - فسوف تظل هذه الاتهامات معلقة فوق رأس البشير ما لم يُحاكَم أو إلى أن يُحاكَم.
في عام 1999 وجهت إحدى المحاكم الدولية الجنائية الاتهام إلى رئيس دولة آخر على رأس السلطة، وهو سلوبودان ميلوسيفيتش رئيس جمهورية يوغوسلافيا الديمقراطية في ذلك الوقت. ورغم أنه بدا آمناً آنذاك إلا أنه بعد عام ونصف العام أرسِل إلى لاهاي للمثول أمام المحكمة. على نحو مماثل، وفي عام 2003 وجهت محكمة جنائية دولية أخرى الاتهام إلى رئيس ليبريا آنذاك، تشارلز تايلور. واضطر تايلور إلى الفرار من ليبريا بعد بضعة أشهر، وفي البداية حصل على حق اللجوء في نيجيريا، ولكنه الآن ماثل أمام المحكمة في لاهاي. حين صدر هذان الاتهامان لم يكن بوسع أحد أن يتكهن بما قد تنتهي إليه الأحداث، ويبدو من الواضح أن التأثيرات السلبية التي تخلفها مثل هذه الاتهامات على شرعية المتهم ليست بالتأثيرات الهينة.
لا شك أن المدعي العام وقضاة المحكمة الجنائية الدولية يجازفون إلى حد كبير بتوجيه الاتهام إلى البشير. فالمحكمة لا تزال في مرحلة مبكرة للغاية من نشأتها، ومن المؤكد أن معاداة كل رؤساء الحكومات هؤلاء الذين يعربون عن تضامنهم مع البشير من شأنها أن تعرض مستقبل المحكمة للخطر.
ومع ذلك ينبغي علينا أن نعترف بأن هيئة المحكمة تقوم بما يمليه عليها واجبها. إذ أن المعاهدة المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية تنص صراحة على أن رؤساء الدول لا يتمتعون بالحصانة. فضلاً عن ذلك فقد أحال مجلس الأمن قضية دارفور إلى المحكمة في عام 2005. وكان الأمر بمثابة تحقيق لابد وأن يستكمل، ولا شك أن المحكمة لا تملك إلا أن توجه الاتهام إلى هؤلاء الذين وجدت أنهم يتحملون أعلى مستويات المسؤولية عن الجرائم التي ارتكبت.
إن العديد من هؤلاء الذين يعترضون على محاكمة البشير الآن شاركوا فعلياً في القرارات التي أدت في النهاية إلى الاتهام. وإذا كان قرار الاتهام الذي أصدرته المحكمة الجنائية الدولية يثير لديهم شعوراً بعدم الارتياح الآن فإن ذلك يرجع إلى حقيقة بسيطة مفادها أنهم لم يتوقعوا أن تضطلع المحكمة بالمسؤوليات التي أسندوها إليها.
***
أرييح نيير رئيس معهد المجتمع المفتوح وأحد مؤسسى منظمة مراقبة حقوق الإنسان (Human Rights Watch) وآخر مؤلفاته كتاب بعنوان: (أخذ الحريات: أربعة عقود من النضال في سبيل الحصول على الحقوق).
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009.
خاص بـ(الجزيرة)