Al Jazirah NewsPaper Tuesday  10/03/2009 G Issue 13312
الثلاثاء 13 ربيع الأول 1430   العدد  13312

رحمك ربي يا أبتاه
محمد بن عبدالله العجلان

 

بعد صراع مع المرض لم يمهله طويلاً، كان خبر وفاته كالزلزال، فجعنا به كما فجع الأهل والأحباب والأصدقاء ليلة الاثنين 28-1-1430هـ، ومع معايشتنا له في آخر حياته وزيارتنا المتتابعة، إلا أن المصاب كان أشد من أن نحسب له حساباً.. كيف لا؟ والراحل رحمه الله هو والدنا الحبيب الشيخ الدكتور عبدالله العجلان.

شعرت مع إخوتي وأبنائي بيتم كبير مع أن منا من تجاوز سن اليتيم بكثير، لكن من يعرف ذيالك المربي الفاضل حق المعرفة يتخيل معي حجم الفقد.

وإذ أذكره تتجلى أمامي صحيفة متألقة لعالم موسوعي الثقافة يحمل هم الدعوة، ويجاهد بقول الحق، متواضعاً زاهداً في الدنيا، يأسر جلساءه بحسن منطقة، ويبذ الحاضرين بعمق فصاحته.

ما تجده في مجلس الفقه والقضاء والمحاماة إلا وهو الخطيب المفوه، وتراه في الحديث عن الأدب الأديب المثقف يحفظ القصص والأمثال والشعر الفصيح والنبطي، وتشدك في أحاديث الأنساب والتاريخ ما يلقيه من الحوادث والقصص بأفق واسع، وتعجب في المجالات السياسية والاجتماعية من متابعاته ونظراته البعيدة العميقة التي اكتسبها من ثقافاته وخبراته فلكل مقام عنده مقال، وجوابه يشفي كل سؤال.

كان رحمه الله رجلاً فاضلاً عصامياً مثابراً أحب العلم من المهد إلى اللحد، أفنى حياته لخدمة دينه ووطنه، قضى حياته في العلم ورحل في طلبه عائداًَ بشهادة الدكتوراه في أصول الفقه من جامعة الأزهر، في الوقت الذي قلّ من أقرانه من قرأ، أو أنهى شيئاً يسيراً من التعليم.كان شغوفاً بأخبار العالم الإسلامي يتابع بروح المؤمن الذي يحمل هم أمته، يتلهف لأخبارها.. ويفرح ببشائر انتصارها.. ويأسى لقتل ودمار يصيبها.. متطلعاً إلى وعد التمكين بنظرة إيمان ويقين.

دخلت عليه في العناية المركزة آخر أيام مرضه، كان يتحدث بصعوبة، قبَّلت رأسه الحبيب، وجلست أدعو له.. أومأ إليَّ برأسه لأقترب.. اقتربت.. مم تشكو يا أبتاه..!! فإذ به يسألني عن غزة.. سبحان الله!! حتى أحلك الظروف لم تشغله نفسه ومرضه عن الدعاء والسؤال.رحمك ربي يا أبا محمد.. رحمك الله يا أبت.. كبيراً كنت ولم تزل..!! جليل في فكرك ومحبتك للإسلام وأهله.. شامخ بإيمانك.. بحر في علمك.. مفضال في إحسانك.. جميل في أبوّتك.. لطيف في معشرك.

ما إن تسامع الناس بخبر رحيله حتى جاءت الجموع الغفيرة من المصلين، واصطفوا بحزن عميق يدعون للفقيد في منظر مهيب، وسار الموكب يعلوه الأسى والوجوم لتتبع الجنازة العظيمة.. كم كان لهذا الوفاء منهم أثر في العزاء والسلوى، فالراحل الغالي فقيد الجميع.. فقيد الأمة الإسلامية، أحد مفكريها وأبنائها البررة.. فقيد الجميع فقد كان من رجاله المخلصين.. أسهم في إرساء دعائم التعليم، وبخاصة تعليم البنات، وسطعت آراؤه في مجلس الشورى بسديد الآراء والمقترحات.

أسأل الله أن تكون هذه الجموع من آثار محبة الله التي وزعها في قلوب خلقه لعباده الصالحين.

وكان للفتة خادم الحرمين الكريمة في الاتصال بنا رغم مشاغله ومسؤولياته، أطيب الأثر، وكذا أصحاب السمو والمعالي الذين انهالت اتصالاتهم وبرقياتهم وزياراتهم.. حتى ازدحمت داره العامرة بالمعزين من أهل وأحباب وأصدقاء، وليس هذا بمستغرب على شعب مسلم متكافل تسوده روح المحبة والوئام.

وأعجب إذ أرى من يعدد فضائله ومآثره.. ويذكر جوانب مشرقة مشرّفة عن النزاهة والإخلاص لمسها وعاينها خلال فترة عمله مع الفقيد لم يكن يبوح بها لنا نحن أقرب الناس إليه، فليس همه الفخر بترك حطام زائل، ولم يعنه من كشفها ثناء هاطل، بل كانت نظرته في إخفائها بعيدة عميقة تستشرف حياة باقية ومستقبلاً مشرقاً خالداً في دار القرار.

جنسيات مختلفة وطبقات متفاوتة من الناس أتت باكية تقدم واجب العزاء.. تدعو بإخلاص.. كاشفة عن جانب آخر من إحسان الفقيد..!!

ردت فضائله عليه حياته

فكأنه من نشرها منشور

كان في حياته ومماته مناراً للخير.. وفخراً للأبناء والأحفاد.. وكل من عرفه..!!

إنه من القلائل الذين بنوا لهم مجداً من الذكر الحسن والسيرة الزكية.

رحمك ربي يا أبتاه.. وثقل ميزانك.. وبيض وجهك يوم العرض الأكبر!!

فأحسبك ولا أزكيك قد أديت أمانتك على خير وجه.. جعلك الله ممن تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.. وجمعنا بك في الفردوس الأعلى في خير دار.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد