Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/03/2009 G Issue 13307
الخميس 08 ربيع الأول 1430   العدد  13307
فيض الضمير
أساتذة لا أنساهم..إبراهيم سكَّر.. عالماً ومربياً وفناناً (1-2)
د. محمد أبو بكر حميد

 

رمى بملابس الدنيا في وجوهنا ورقد غير آسف على شيء، فرحاً بلقاء ربه، فقد ضاقت به الحياة في سنواته الأخيرة، أو ضاق بها لما رآه من نكران الأصدقاء وجحود التلاميذ وقلة الوفاء في الناس.. اعتكف في منزله يتردد على مضض سويعات قليلة في الأسبوع على قسم الدراسات اليونانية واللاتينية بجامعة عين شمس بالقاهره أستاذاً غير متفرغ عدا ذلك لا يخرج من بيته إلا إلى المسجد الذي أصبح أمله وهناء قلبه وسلوة خاطره..

ورغم ذلك بقي باب قلبه مفتوحاً لكل الناس يدل على باب بيته، إلا أن زيارات زملائه وتلاميذه تناقصت حتى توقفت - كطبع الدنيا مع أمثاله من العلماء- منذ زهد في المناصب، وقلّت حاجة الناس إليه.. وأشهد أنني ما زرته في القاهرة خلال زياراتي المتعددة في السنوات العشر الأخيرة التي سبقت وفاته إلا ورأيته ضائقاً بالحياة وبالدنيا ينتظر الفرج من قيود الجسد لينعم بفرحة الروح بجوار ربه.. وكلما لمته على تعلقه بالرحيل ابتسم وقال لي: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى).. عايزني أقعد هنا ليه يا محمد.. خلاص ما ليش لزمة.. أنا مشتاق.. عايز أروح لربنا وجاهز في أي وقت، والله أنا في سجن ولكن قرب الفرج إن شاء الله.

هذا هو أستاذي إبراهيم سكَّر (1928 - 1998م) الذي ما زلت أترحم عليه كلما هبَّت عليَّ نسائم ذكراه عطرة ندية رغم مضي سنوات على وفاته، وذلك لكثرة ما تعلمت منه ولتعدد أفضاله عليَّ، فلا أذكر أستاذاً غيره أحببته وارتبطت به إلى وفاته أكثر منه.. فقد أسعدني الحظ بأن أكون من تلاميذه في مرحلة الدراسة الجامعية بالكويت.. لن أنسى قط يوم رأيته أول مرة وهو يستقبل الطلاب المستجدين بشخصية مرحة جذابة ولسان رطب بالكلمة الطيبة ووجه بشوش تميز بلآلئ مضيئة زانه شعره الفضي اللامع بتاج من وقار.. وفي قاعات المحاضرات بهرنا أسلوبه المتميز في التعامل مع تلاميذه، تواضع العلماء الذي يسقط تلك الحواجز الشكلية التي تحول دون التفاهم بينهم وبين الناس، فأكبرناه وأحببناه، فملأ بعلمه منّا العقل، وامتلك بأبوته منّا القلب.. كانت محاضراته تتحول إلى ندوة علمية ولقاء اجتماعي في آن واحد.. وقد عرفت فيه إخلاصه لعمله وترفُّعه عن المجالات الشخصية حتى لا تكون على حساب المبادئ، فهو لا يتهاون مثلاً في حقوق تلميذ لحساب أستاذ صديق وإن كلفه ذلك خسارة الصديق.

ولم نعرف الدكتور إبراهيم سكَّر داخل حجرات الدراسة فحسب وإنما كان يحرص على تلك العلاقة خارج قاعة المحاضرات.. كان يدعونا إلى منزله ويتبسط معنا لنفتح له قلوبنا فيتعامل مع قضايانا بأبوة صادقة وحنان فياض.. وتلاميذه في كل مكان يذكرون له ذلك لأنه لم يعلمنا فقط ما قرأه في الكتب، ولكنه كان يعطينا عصارة ما تعلمه في مدرسة الحياة لنستعين بها على مشاكل دنيانا.

قال لي ذات مرة حين رأى على وجهي سحابة كدر مزيلاً حجاب الكلفة التي تقوم عادة بين الأستاذ وتلميذه فتعيق استفادة التلميذ الكاملة من أستاذه: (الحياة مش بس في الكتب.. الحياة هي الثقافة.. أوعى تفتكر أنك لما تقرأ بس هتكون مثقف.. تعال هنا فضفض يا بني ما تخفش أنا متفهم وأقدر أساعدك). وكان يقص عليَّ تجاربه في الحياة والأدب والفن بما فيها تجاربه الشخصية التي كان يقدمها لي في طبق من حِكمة.. كنت شديد الخجل في السنة الأولى من المرحلة الجامعية عندما عرفته، وكان أول من لاحظ عليَّ هذا، كان يلاحظ أنني أكتب بأسلوب ممتاز ولكني لا أتحدث بالجودة نفسها، فكان يكرر علي -رحمه الله-: (الكتب وحدها مش هتعلمك).. وما زلت أذكر عندما أحس أو سمع مرة أن فتاة تحوم حولي، وكانت الدراسة مختلطة خاف أن أقع فاستدعاني إلى منزله وحدثني بأبوة حانية أو بحنان أب يخاف على ابنه من الوقوع في براثن الشبهات.. قال بأسلوبه الحكيم: (أنا عارف أنك بتصلي.. بس برضه أنا خايف عليك، هي مش بتاعة رومانسية.. دي بحر، خايف أنك تغرق فيه قبل ما تتعلم السباحة.. أوعى يا بني دي عايزة حاجة ثانية خالص.. يمكن أنت ما تعرفهاش ومش لازم تعرفها ده الوقتي).. وابتعدت عني تلك الفتاة بقدرة قادر كأنما لدغتها أفعى، وما زلت إلى اليوم أعتقد أنه كان له دور في ذلك بطريقة أو بأخرى.

وكان يسعدني ويشجعني على التفوق حين أراه شديد الاهتمام بي، فقد كنت أكثر تلاميذه تفوقاً في كل المواد فضلاً عن إعجابه بمقالاتي الأدبية التي بدأت أكتبها في الصحف آنذاك.. كان يحرص أن يقرأ كل ما أكتب، وكنت في تلك الفترة (1978 - 1981م) بدأت الظهور في بعض الصحف السعودية والكويتية فكان لي مقال أسبوعي في صحيفة (القبس) ومقالات في ملحقي (التراث) و(الأربعاء) بجريدة (المدينة) السعودية، وكان أحياناً يصحب معه صحيفة (القبس) ليقرأ مقالي في غرفة الأساتذة وأحياناً يتحدث معهم عنه.. وذات يوم علَّق أحد الأساتذة تعليقاً ينتقص فيه من إحدى مقالاتي، فقال له الدكتور سكَّر بتهكم, وقد أحرجه بنظرة حادة: (إيه رأيك بأه أن محمد بيكتب أحسن منك؟!) وكان ذلك الأستاذ يحمل في نفسه عليَّ لأنه يكتب في الجريدة نفسها التي أكتب فيها، فكان التحرير يضع مقالي في النصف الأعلى من الصفحة ومقاله في نصفها الأسفل، ولم يكن لي في ذلك ذنب، وزاد كلام الدكتور سكَّر له (الطين بلة) كما يقولون، ومن يومها لم يظهر لي ذلك الدكتور وجه الرضا?!.?

كان الدكتور إبراهيم سكَّر رجل مبدأ وصاحب رسالة في الحياة لا يهادن، ولا يجامل، ولا يفرط في الأمانات وحقوق الغير حتى لو أضر ذلك به شخصياً.. لن أنسى موقفه معي عند التخرج عندما اعترض أحد أعضاء هيئة التدريس على حصولي على درجة الامتياز في بحث البكالوريوس، ورشح زميلة أخرى كان يشرف عليها.. وقف له الدكتور سكَّر بالمرصاد، وقال له بوضوح كحد السيف: (محمد بيحصل على امتياز طوال ثلاث سنوات وهو أفضل طالب عندنا في القسم.. إذا مش عايزين تدّوه امتياز يبقى يأخذ جيد جداً.. بس محدش يأخذ أكثر منه أبداً!!).

وانتصر لي الدكتور سكَّر وسكت ذلك الدكتور اليساري الذي كنت على خلاف معه في الرأي, ولم يقل لي الدكتور سكَّر بالقصة إلا بعد حين، ولما عاتبته قال لي: (أنا ما عملتش حاجة (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) يا محمد).

ودفع الدكتور سكَّر ثمن مواقفه الشريفة والشجاعة إذ لم تكن له شجرة علاقات تربطه بأصحاب النفوذ، فلم يُجدد عقده في العام التالي فغادر الكويت وعاد إلى القاهرة مسروراً.. وبعد ذلك لم يغادر مصر قط إلا إلى حج أو عمرة.. ويشاء الله أن أحتاج إلى رسالة تزكية باللغة الإنجليزية من ذلك الأستاذ اليساري بعد وصولي إلى أمريكا وأشهد أنه بعث لي بتزكية ممتازة وكتب لي يقول بالنص: (شد حيلك يا محمد.. وأنا كلي ثقة أنك هتطوّل رقبتنا قدام الأمريكان!).. وما زلت أحتفظ بهذه الرسالة.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد