Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/03/2009 G Issue 13307
الخميس 08 ربيع الأول 1430   العدد  13307

التربية الأسرية في الزمن الصعب
د.زايد بن عجير الحارثي

 

إذا نظرنا ولاحظنا ما يمر به النشء في هذه السنوات في مجتمعنا أو في المجتمعات المشابهة في الدول العربية أو النامية لوجدنا خطراً كبيراً يحيط بتربيتهم ليس في المدرسة وحسب، وكما سبق أن أشرت إلى ذلك في مقال سابق، حيث رأيت أن تعليمنا في حاجة إلى إعادة بناء وإصلاح.

بل وعلى وجه الخصوص فإن منطلقات التعليم والتربية وأساسها من الأسرة في حاجة إلى وقفة بل وقفات تقويمية.

إن الأسرة بمفهومها المعاصر قد تغيرت تركيبتها ووظيفتها في مجتمعنا فأصبحت في ضوء التجاذبات المؤثرة ذا تأثير أقل خاصة بعد دخول المنتجات التكنولوجية الهائلة مثل الإنترنت وألعاب الفيديو والاتصالات ممثلة في التلفونات النقالة وما تحويه من ألعاب ورسائل وصور ومشاهد فضلاً عن التلفزيونات والفضائيات اللامحدودة ودخول الجميع إلى محيط الأسرة ومحيط تربية الأبناء استقبالاً وتأثيراً بإرادة الأسرة ورغبتها أم بغير إرادتها.

إنه وبعد أن كانت الأسرة في مجتمعاتنا تتكون من الأب والأم والأجداد والإخوان تلاشت في ضوء التغيرات الحضارية والثقافية والصناعية والاقتصادية وأصبحت في كثير من الأحيان لا تشمل إلا الوالدين فقط ومعهم بعض أو كل المؤثرات الأخرى التكنولوجية التي سبق أن أشرت إليها.

إنه وبعد خروج الأم للعمل مع الأب للحاجة وإلى دعم الدخل وضرورات الحياة أو لمجرد تحقيق أهداف أخرى وبالاعتماد على الخادمات في كثير من شؤون الحياة وبالنظر إلى غياب الأب أو الأم أو كليهما بعد العمل إما في النوم أو في حضور المناسبات والارتباطات الاجتماعية وترك الأبناء مع الخادمات والمربيات وألعاب الفيديو أو مشاهدة الفضائيات ومع الأقران، زادت خطورة مخرجات هذا النوع من التربية وزادت احتمالات نمو شخصيات معتلة نفسياً وجسدياً.

لقد أصبحنا نشتكي أولياء أمور ومربين ومسؤولين عن نشوء جيل ضعيف، متواكل وغير مسؤول، وعدواني مندفع يتوحد مع شُلل وأصدقاء غير صالحين بل ويلجؤون في أحيان كثيرة إلى سلوك مضاد للنفس والمجتمع، وأصبح هناك في حالات كثيرة عجز من قبل الآباء لتربية أبنائهم وإصلاحهم حتى أنني أستطيع القول أننا وصلنا في بعض الحالات إلى أن الأبناء هم الذين يربون آباءهم والآباء هم الذين ينشدون رضى أبنائهم!! وهذا لعمري مناقض لكل القيم والأعراف والمنطق.

ولست أريد من سياق هذه النظرة السلبية إلى التعميم على هذا الجيل، فهناك الكثير من الأبناء الذين يؤدون رسالتهم بشفافية واهتمام ويوفرون تربية سليمة ونموذجية... ولكنها نظرة واقعية واستشرافية خلصت بها من نتائج دراسات ولجان ومشاهدات وتقارير تدق أجراس الإنذار لمثل ما يحيط بالتربية الأسرية في عالمنا اليوم وفي مجتمعنا على وجه الخصوص. فما هي التربية الأسرية؟ ومن المسؤول عن القيام بها؟ وهل التربية الأسرية قادرة اليوم على القيام بوظيفتها في الزمن الصعب؟ وكيف تواجه التربية التحدي اليوم وتسهم في بناء شخصيات الأبناء بشكل مناسب؟

إن التربية بصفة عامة هي عملية النمو المستمر بل هي الحياة نفسها بنموها وتجددها. وهي كما يعرفها المربي الشهير جون ديوي John Dewey بأنها تنظيم مستمر للخبرة. وفي ضوء هذا التعريف ترتبط التربية وتتداخل مع مفهوم التنشئة الاجتماعية Socialization وهي العملية التي تقوم على التفاعل بين الطفل والأسرة، حيث أن التنشئة الاجتماعية هي الأساس لتنشئة الطفل وكيفما يتم التعامل معه في البيت في مراحل نموه الأولى، هكذا ينشأ ويترعرع ويصبح من الصعب تغيير سلوكه، إنما يكون هناك حالات تعديل سلوك.

أما من المسؤول عن تربية الأبناء؟ فإننا إذا نظرنا إلى وجود الأبوين في الأسرة، فإن الإجابة تكون بتحميل مسؤولية التربية على الطرفين وبتنظيم بحسب الأدوار والوظائف لكل منهما مع التسليم بأن تربية الأبناء تتم قبل مولدهم... أي من اختيار الشريك قبل الزواج، لأن حسن اختيار الأم هو اختيار صائب للبنة الأولى للتربية الصحيحة، والشاعر يقول:

الأم مدرسة إذا أعددتها

أعددت شعباً طيب الأعراق

وقوله صلى الله عليه وسلم: (الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها). فالرعاية والتربية إذن للأبناء في الأسرة العادية هي من مسؤولية الأب والأم كل بحسب دوره ووظيفته.

وأود أن أوضح هنا إلى أن المرحلة العمرية لها دورها في تحديد المسؤولية، فكل مرحلة عمرية لها خصائصها ومميزاتها وأصول التعامل معها. ويسهب في أصول ونظريات المراحل العمرية علماء نفس النمو والطفولة في كتبهم وأبحاثهم بل ويسبق ذلك توجيهات وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يذكر بأن: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

والمسؤولية عن التربية الأسرية للأبناء تتعاظم بحسب التحديات التي تواجه الأسرة، ففي حالة غياب أحد الوالدين لوفاة أو لطلاق أو غيرهما يختلف عن المسؤولية في حالة غياب الوالدين معاً، وهكذا فإن الأقارب ومؤسسات الرعاية والحماية الاجتماعية يجب أن تتولى عبء المسؤولية في حالة غياب المربي الطبيعي، كما نلحظ ذلك في حالة مختلفة في مجتمعنا أو في مجتمعات بعض الدول حيث نجد أطفالاً ينشؤون تنشئة سليمة تعوض إلى حد ما عن التنشئة الطبيعية للآباء. ولقد أشرت في فقرة سابقة حين الحديث عن الزمن الصعب كما يسميه بعض علماء التربية الأسرية (Difficult Time) الذي نعيشه حيث تعاظم مسؤولية التربية الأسرية فيه. فالصعوبة تتضح من خلال عدد المؤثرات ونوعها في محيط تربية وتنشئة الطفل مع محدودية الإمكانات العلمية والتربوية والمادية المتاحة لرب الأسرة فضلاً عن تأثير الأوضاع المختلفة، ومن أهمها الاقتصادية وتكاليف الحياة وبخاصة تربية الأطفال، مما نتج عن ذلك كثير من المظاهر والظواهر السلبية التي نشاهدها ونقرأ عنها ونسمع عنها من انحرافات سلوكية ونفسية وأخلاقية للأطفال والشباب، من سرقة وكذب وغش واعتداء على الآخرين أو على المجتمع وقيمه، أو تحرش أو إدمان أو غيرها والتي ما هي إلا نواتج لغياب أو ضعف التربية الأسرية الصحيحة.

كيف تواجه التربية الأسرية التحدي اليوم وتسهم في بناء شخصيات الأبناء بشكل مناسب ويحقق الرسالة والأهداف التي خلقنا الله من أجلها وينشدها والوطن منه؟؟ أستطيع أن أدعي أن المناخ الصحيح للتربية السليمة يعتمد على الأسس التالية:

أولاً: القدوة السليمة (للأب وللأم) في القول والعمل، توفر الأساس السليم للجو والمناخ الأسري الصحي وتشمل:

1) النظافة في المظهر والمخبر.

2) الاهتمام بالسلوك الخارجي والصحة العامة.

3) الصدق في القول والإخلاص في العمل.

4) الإيفاء بالوعود.

5) احترام الوقت.

6) تحمل المسؤولية وغيرها.

فإن توفر القدوة الحسنة في ما سبق إيراده من أمثله من شأنها بحسب التوجيهات النبوية وبإثباتات النظرية التربوية والنفسية توفر أساساً قوياً ونموذجاً فاعلاً ليس فقط للأبناء في المنزل وأفراد الأسرة بل وللتلاميذ والطلاب في المدرسة، وهذه من شأنها أن تساهم في تنشئة اجتماعية سوية للأطفال وللمجتمع.

ثانياً: إتباع الأساليب الوسطية الصحيحة في التربية والمعاملة الوالدية في المنزل من قبل الوالدين حيث لا تسلط وتشدد ولا حماية زائدة أو تدليل. ومن علامات هذه الأساليب السوية:

1) إتباع الحوار والمناقشة المبنية على الثقة والمحبة في حل المشكلات واتخاذ القرارات في كل شأن من شؤون الأسرة وبين جميع أفراد الأسرة.

2) تنمية المسؤولية الشخصية والاجتماعية لدى أفراد الأسرة من الطفولة من خلال إشراك الطفل والشاب في القيام بمسؤولياته التي يتم توزيعها من خلال رب الأسرة أو القائم عليها من أصغر حاجة شخصية وحتى القيام بالواجبات المدرسية المنزلية، فإن التربية على تحمل المسؤولية مهارة وفن نشاهد نجاحاتها في تربية الصفوة في العصر الإسلامي الذهبي ونشاهد أمثلة منها في كثير من قرانا ومدننا ولكننا نشاهدها بشكل أوسع في تربية الأبناء في المجتمعات الغربية التي تتعامل مع الأطفال وخاصة في سني عمرهم المبكرة على أنها مسؤولية مباشرة للأبوين نحو أبنائهم فنجد أطفالاً ينشؤون (بتفكير استقلالي منضبط مسؤول من خلال ما يتعلمون من قيم وأدوار ومسؤوليات في المنزل).

ثالثاً: الانسجام والاتساق في التعامل مع الأبناء داخل المنزل. ولقد ثبت في كثير من نتائج الدراسات والأبحاث النفسية والتربوية أهمية انسجام وتوازن الأبوين في التعامل مع أبنائهما من حيث إصدار الأوامر والطلبات والتوجيهات وكذلك من حيث المنع أو النهي وعدم إظهار أشكال الخلاف أو التنازع أمام الأبناء رغبة في إبعاد الأبناء عن الأجواء غير الصحية وأن كثيراً من المشكلات المتمثلة في ضعف الثقة في الذات والآخرين وغيرها من المظاهر السلبية التي تظهر لدى الأطفال منشأها عدم الاتساق والانسجام في أساليب المعاملة الوالدية.

رابعاً: توفير الوقت الكافي من قبل الآباء لأبنائهم في الأسرة، وهذا أمر أساسي، فإن توفير الحاجات الأساسية من مأكل ومشرب ومصروف يومي للأبناء لا يكفي للتربية السليمة، فلابد إن أردنا تربية ناجحة لأبنائنا أن نوفر لهم الوقت الكافي لمناقشتهم وملاحظتهم ومتابعتهم فيما يفعلون ويشاهدون ويقرؤون ويلعبون ويخالطون وحتى فيما يفكرون، لأن هذا من شأنهم تقويم نمو شخصية الأبناء في وقتها المناسب (وأن نتذكر دائماً أنها التربية في الزمن الصعب), وأن كثيراً من المشكلات والانحرافات التي نشاهدها ونلحظها لدى الأطفال والمراهقين والشباب إنما يسهم في نشوئها وتعاظمها بُعد أو غياب الآباء عن أبنائهم ومتابعتهم وتربيتهم.

خامساً: تعلم كيفية التعامل مع كل مرحلة إنمائية، فإنني أرى أن التربية اليوم لم تعد تعتمد على المحاولة والخطأ أو الاجتهاد والعشوائية، وإنما أصبحت علماً وفناً لابد من تعلمها حتى من قبل أن يولد الأبناء.

سادساً: إيجاد مزيد من البرامج العلمية المكثفة ضمن مشروعات وطنية كبرى تتحمل مسؤولياتها الجامعات ومؤسسات التعليم العالي ووزارة الشؤون الإسلامية والشؤون الاجتماعية ووزارة التربية والإعلام وغيرها ومؤسسات المجتمع المختلفة في توعية وتعليم أصول التنشئة الأسرية والتربية الوسطية من خلال برنامج بل برامج تقود إلى تنشئة سليمة لشخصية الأبناء تحقيقاً لرسالة المجتمع نحو أبنائه ليصبحوا مواطنين صالحين نافعين ومنتجين.

وبالله التوفيق

وللتواصل مع الكاتب والتعليق

ZOZMSH@HOTMAIL.COM


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد