قد أفهم أن تتطوع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في بلد لا يقيم لهذه الشعيرة شأناً، وليس فيه جهاز يضطلع بهذه المهمة، وقد أفهم إذا قامت جهة ما بإحياء فعالية معينة دون أن تأخذ ترخيصاً من جهة الاختصاص؛ فتقوم بالإبلاغ عنها للجهة المعنية؛ انطلاقاً من أنها تمارس فعالياتها بشكل غير نظامي. وقد أفهم إذا أتى (حدث) مندفع، محتقن بعقد نفسية لا حصر لها، وتعدى على حقوق الناس بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، غير أن الذي لا أفهمه أن يمارس هذه الولاية عاقل ليس بذي صفة، وليس لديه تخويل، ويجعل من نفسه وبالقوة (وصياً) على أجهزة ولي الأمر صاحب البيعة، التي تعمل في ظل دولة الشريعة.
ما حدث في (مركز الملك فهد الثقافي بالرياض) أثناء عرض مسرحية (الإكليل)، يعتبر تعدياً على سلطة الحكومة، لا يختلف من حيث المبدأ والمنطلقات مع تعديات الإرهابيين الذين يدعون - أيضاً - أنهم يقيمون شرع الله، وأنهم - كذلك - يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. الفرق بين هؤلاء المتشددين الذين أثاروا اللغط ومارسوا الاحتجاج وعكروا أجواء هذه الفعالية الثقافية والإرهابيين هو في (الوسيلة)؛ فهؤلاء وهؤلاء جميعهم ليسوا بذي صفة. الإرهابي ينكر بالعنف واستخدام السلاح، وهؤلاء ينكرون بوسائل أقل، غير أن المنطلق واحد، وهو (الافتئات) على سلطات الحكومة، حتى وإن كان التفاوت في (الوسيلة) واسعاً وكبيراً.
الغريب أن تبريراً جاء في صحيفة (سبق) الإلكترونية يقول: إن المسرحية احتوت على مخالفات شرعية، مثل (الموسيقى) التي ابتدأت بها المسرحية، كما جاء في تقرير نشر في هذا الموقع الإلكتروني عن هذه الحادثة. كان الأجدر بأصحاب سبق قبل أن (يتلمسوا) الأعذار لهؤلاء المتشددين، ويقروا (تعديهم) على السلطان الحكومية، ويدافعوا عنهم، أن يشدوا الرحال مع (متشدديهم) إلى الإذاعة والتلفزيون (الحكومية) ويمنعوا الأغاني والموسيقى؛ فهذه المنكرات - حسب معاييرهم - على رؤوس الأشهاد هناك. وكان الأجدر بهم - أيضاً - قبل التبرير لهؤلاء أن يدعوا إلى جعل سلطة (الحسبة) حقاً مشاعاً لكل المواطنين، ولا تختص به جهة حكومية.. لو فعلوا ذلك، أو على الأقل دعوا إليه في موقع (سبق) الإلكتروني، فإن (تبريرهم) يكون من حيث السياق مقبولاً؛ فهؤلاء، ومعهم أصحاب سبق، كمَن (يحرث) أرضاً ليست له ويزرعها، ثم يأتي ويقول إن ما تجود به الأرض بعد الحصاد سيوزع في أعمال الخير. المشكلة هي في (التعدي) على أرض لا يملكها، بغض النظر عن سلامة النوايا.
وفي تقديري أن هؤلاء المتشددين، ما زالوا يعتقدون أنهم يعيشون في عصر ما قبل (الدولة الحديثة)، حيث الدولة (البدائية) التي لا وجود للأنظمة والقوانين وتوزيع السلطات فيها، فيمارس السلطة كل من وجد في نفسه (أهلية)، ولا قيمة هنا أن يكون مفوضاً بممارستها من السلطات الرسمية أم لا؛ أي أن لهم الحق - مثلاً - وفي السياق نفسه، أن يسعوا إلى منع المخدرات، ويقتحموا بيوت مَن يروجونها، وأن يشكلوا - أيضاً - مجموعات تحتسب الأجر عند الله؛ ليتأكدوا من عدم وجود الغش والتدليس على الناس في الأسواق، يكفي أنهم من أهل الخير، شكلاً وموضوعاً، ويلبسون (البشوت)، وأن نواياهم سليمة.
ما حصل في مركز الملك فهد الثقافي بالرياض سبق أن حصل في جامعة اليمامة قبل قرابة السنتين؛ أن يعود القوم إلى ممارسة نفس التعدي على شأن ليسوا فيه بأهل صفة، معنى ذلك أنهم لم يجدوا ردعاً بما فيه الكفاية.
إلى اللقاء