Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/02/2009 G Issue 13279
الخميس 10 صفر 1430   العدد  13279

مسافات.. حين يكتبنا النص
(أ) ...:... (ي)
حسن الزهراني

 

في ليلة الاثنين 1-1-1430هـ وفي تمام الساعة الثالثة بعد منتصف الليل رحل أبي إلى جوار ربه.. رحمه الله رحمةً واسعةً، وجعل منزله في عليين، وجمعنا به في جنات النعيم.

هبطتْ تشيّع روحك الجوزاءُ

فأضاء من وهج البهاء بهاءُ

وبكى الجلال على الجلال بحرقةٍ

ومضت بنعشك قبلنا العلياءُ

شرِِقت حُشاشات النّحيب وأينعت

خلف الجفون: دموعنا الخرساء

وشوى الأنين قلوبنا فتفطّرت

أكبادنا فبكاؤنا إيماء

وتضاءل الكون الفسيح بمقلتي

وقضت على إِبصارها الأقذاء

أمسيت بعدك نصف قلبي جمرةٌ

والنصف ثلجٌ والعروق هباء

إني ومن حولي هنا في حسرةٍ

عُظمى تُفتّت صبرنا اللأواء

صلّى فؤادك تحت سدرة حزننا

وتدثّرت تهليلك الأرجاء

وأتت ملائكة النعيم (كما روت

روحي) بطون أكفها خضراء

صعدت بروحك والعبير يحفّها

والنْور ترسم دربه الأنواء

ورحلت في (الثلث الأخير) ببسمةٍ

دُهشت لِناصع حسنها الأضواء

في مثل هذا الوقت تنهض مُشرقاً

فتشيب من إشراقك الظلماء

في مثل هذا الوقت من عهد الصّبا

يدعوك خوْفٌ صادقٌ ورجاء

فتقوم منشرح الفؤاد مسبّحاً

ما دبّ في أعضائك استرخاء

فيسيل بالترتيل في أسماعنا

نور اليقين فتُخصب الأجواء

وعلى أذانك تشمخرّ جوارحي

فأقوم يغسل مقلتيَّ صفاء

يا عاشق البيت العتيق ومن له

خلف (المقام) تهجّدٌ وبكاء

يا بلبل (الركن اليماني) ها أنا

وأحبتي زفراتنا حمراء

نصطفّ خلف الرّكن نعشُك قبلنا

تجتاحنا شهقاتنا الهوجاء

وقلوبنا غصّت بعلقم حزنها

نبضاتها تغلي بها البُرَحَاء

كم بتّ معتكفاً هنا متبتّلاً

لله يشرب وجهك اللألاء

عشقتك أرض الوحي حين عشقتها

وهواةُ فاقع طهرها السُّعداء

بالله كيف يحيط شعري يا أبي

بفضائلٍ ما طالها الفضلاء؟

ركضتْ معي كل المعاني ضُمّرٌ

حتى أصاب صمودها الإعياء

من أين تُدركك الصفات وأنت من

لَبِست حُلاك صفاتُها الحسناء

يا مَن خلعت على المكارم بِِزّةً

طارت بباهر وشيها الأنباء

شهد الجميع بنبل طبعك يا أبي

والناس للمولى هنا شهداء

أرّختَ لِلشيم الرفيعة ها هنا

مجداً يسير بهديه الشرفاء

ونبذت خلفك زخرف الدنيا فما

أغراك من زيف الحياة نِداء

وصفحت مُقتدراً بكلّ تلطّفٍ

عمَّن بإصرارٍ إليك أساءوا

علّمتهم أن الحياة تسامحٌ

ومودةٌ وتراحمٌ وإخاء

فغرست في كل القلوب محبةً

ومهابةً ما نالها العظماء

رصّعت مجدك من يواقيت التّقى

وجذور فخرك عِفةٌ وحياء

وصمدت في وجه الخطوب بهمّةٍ

عجزت تُحيط بسرّها الأرزاء

وألنت أكباد (الصخور) بحنكةٍ

أصْغت لِمذهل بوحها الصماء

ورفعت أركان المنى ببصيرةٍ

فسما على أسس الصلاح بناء

أفضى بِسرّك (للسقائف) خافقٌ

من حِلمهِ يتعلّم الرُّحماء

علّمتنا بالصمت أبلغ حكمةٍ

والنّابهون حديثهم إيحاء

يا راحلاً بضيائنا في لحظةٍ

عجفاء تكسو وجهها الوعثاء

لِله أنت فكم سعيت مكافحاً

من أجلنا وكوى خطاك عناء

ونفثت في روع الرّبا أهزوجةً

كم هام في أبعادها البلغاء

ما زلت أذكر يا أبي أَلَقَ الضحى

في وجنتيك. وفي يديك عطاء

ما زلت أذكر في جبينك لؤلؤًا

شقّ الثرى فإذا اليباب نماء

نضّدّت أسرار الحقول فقمحها

في ساعديك بشائر وسَخاء

شربتْ سنابلها حنانك غُدوةً

فإذا الحصاد: خزائنٌ ورفاء

أزكى الثمار تدفّقتْ (فُلجانها)

من راحتيك فعمّت النّعماء

ما بين هامات النّخيل: ولوزنا

يمتدّ وجهك للسنين سناء

فتظلّ تركض في فجاج طموحنا

عيناك للفلق النّديّ لِواء

ونظلّ نَرْقبُ نور موكبك الذي

زفّتهُ قبل مغيبها (الشِّعراء)

متحلّقون على موائد شوقنا

ترنو لِطيفك أنفُسٌ شعثاء

فتجيء بالبشرى وتمحو خوفنا

فَيُذِيب غمّ البائسين هناء

سقطت دموعٌ باللّهيب مِلاءُ

فتصدّعتْ من حرّها الرّمضاء

وبكى معي قلمي وكل محابري

ودفاتِري وقصائدي العصماء

وبكاك نبضي في الوريد ومهجةٌ

هي للنحيب ضحى الرحيل وِعاء

من أين تمتاح القوافي نورها

وجِهاتها من حزنها سوداء

فَقَدَ ابتسامتك اليتيم فمن له

إذ مُزقت بأنينه الأحشاء؟

فبكى وأبكى الثاكلين وأجهشت

ودياننا وجبالنا الشمّاء

وبكاك محرابٌ تُعطرُ جوفه

من ثغرك: (الفرقان) (والإسراء)

وبكاك صمت الليل كم نادمته

وبكاك في الثلث الأخير دُعاء

وبكاك مصحفك الذي عزّيتُهُ

فتحشرجت في جوفه الأجزاء

وبكاك (ريحان) السفوح (ونحلها)

وبكى على وجع الغيوم مساء

لم يُسلِ قلبك في الفقيد عزاءُ

كلاّ ولم يطفئ أساك رثاء

اخفض (جناح الذلّ) واكتب للنُّهى

مرثيةً يبكي لها الغُلظاء

مرثيةً يطوي الفِجاج نحيبها

ويقوم إجلالاً لها الشعراء

ما مِتّ يا أبتِ فصوتك في دمي

قبسٌ وفي رئة البيان هواء

كم عاش من ميتٍ تخلّد ذكره

ويموت قبل مماتهم أحياء

سأظلّ صدّاحاً بفضلك يا أبي

ما دام لي بين الأنام بقاء

وبفضل أمي فهي قد سبقت إلى

دار الخلود فغابت السّرّاء

ما زلت آمل أن يََلُمّ شتاتنا

بكما بجنات الخلود لِقاء

(أَلِفُ) الحياة لمن تأمل زيفَها

ببصيرةٍ رغم البهارج: (ياء)


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد