القاهرة - مكتب الجزيرة - أحمد عزمي:
يمثل الدكتور حامد عمار قيمة علمية شامخة، وصاحب مسيرة طويلة، وعطاء علمي متميز، وإنجازات في مجالات شتى، حتى أنه حاز لقب شيخ التربويين بجدارة، خلال رحلته التي انتقل فيها بين بيئات مختلفة، ابتداء من مسقط رأسه في جنوب مصر والحياة في القاهرة، ومن ثم إنجلترا للحصول على الدكتوراه، والعمل بمنظمة اليونسكو والجامعات العربية، ما أكسبه المزيد من الخبرة واتساع الرؤى، ورغم اقترابه من التسعين إلا أنه شعلة من النشاط العلمي لا تهدأ.
عن تجربته الإنسانية كان هذا الحوار فإلى التفاصيل:
** إذا أردت أن تصل إلى أبعد نقطة في ذاكرتك.. فماذا تقول؟
- إذا عدت إلى بيئتي الفقيرة التي نشأت فيها، فستجد بيئة زراعية، كانت أقصى أمنيات أسرتي أن أكون فلاحاً يمتلك مهارات الزراعة ورعاية الماشية، لكن بالمصادفة انتقلت من الكُتاب المدرسة الإلزامية، التي كانت طريقاً مسدوداً، بعد أربع سنوات، إلى نظام التعليم الحديث عام 1928، حيث التحقت بالمدرسة الابتدائية في مدينة أسوان (جنوب مصر) وكنت ضمن العشرة الأوائل، فعبرت طريقي إلى المرحلة الثانوية ثم الجامعة، وكانت كلها بمصروفات في ذلك الوقت، لكن -بفضل الله- استطعت أن أحصل على المجانية، خلال مراحل تعليمي، نظراً لتفوقي.
** وهل هناك مصادفات أخرى في حياتك؟
- بعد تخرجي في قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1941، لعبت المصادفة -أيضاً- دوراً كبيراً في توجيه مساري، فلم تكن هناك فرص للعمل، إلا إذا التحقت بثلاث مؤسسات تعليمية: مدرسة البوليس أو المدرسة الحربية أو معهد التربية لإعداد المعلمين، وقد التحقت بالمعهد، ثم عملت مدرساً في مدرسة ابتدائية بعد التخرج، وتشاء الظروف أن ينشئ معهد التربية مدرسة نموذجية ثانوية، فتم اختياري لكي أكون مدرساً للمواد الاجتماعية بتلك المدرسة، وكان ذلك نقلة كبيرة في حياتي، إذا انتقلت للعمل بالقاهرة وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، بدأت وزارة المعارف (المصرية) تفكر في إرسال بعثات إلى الخارج، وكان من حظي أن يتم ترشيحي لبعثتين: الأولى في التاريخ، والثانية في التربية، والبعثتان في إنجلترا، ونصحني دكتور شفيق غربال باختيار بعثة التربية نظراً لكثرة عدد المؤرخين، وبعد أن حصلت على الماجستير في التربية من جامعة لندن عام 1949، قررت وزارة المعارف استدعاءنا، لحاجتها الشديدة إلى تربويين وكان في ذلك صدمة كبيرة لنا، لكنني كتبت - أنا وزميل لي- التماساً إلى دكتور طه حسين -وزير المعارف في ذلك الوقت- أطلب البقاء في لندن حتى أحصل على الدكتوراه، واستجاب دكتور طه حسين لالتماسنا، وكنت أول مصري يحصل على الدكتوراه في اجتماعات التربية عام 1952م.
** وهل كان للمكان تأثيرات ما على شخصيتك وثقافتك؟
- تنقلت بين أماكن متعددة ما بين قريتي وبين القاهرة ولندن، كان العمل في الزراعة له أكبر الأثر في إكسابي الشعور بالمسئولية، منذ الصغر، وأداء الواجب كان من أهم الدروس التي تمثلت في شخصيتي، ثم انتقلت بطبيعة الحال من القرية إلى المدينة، وفي المرحلة الثانوية اختلطت بأبناء الأغنياء، وكان معظمهم من كبار الملاك والتجار، والذي مكنني من الحفاظ على ثقتي بنفسي هو تفوقي الدراسي، وسط هؤلاء الطلاب الأغنياء، الذين يلبسون أكثر من بذلة ورابطات عنق مختلفة وأحذية أنيقة، ولم أكن أمتلك إلا بذلتين إحداها للصيف والأخرى للشتاء.
هذا التفاوت الطبقي نمَّى لديّ شعوراً بإمكانية التغلب على الفقر، وتعويضه بالتفوق، ما يبرر اهتمامي بقضايا العدل الاجتماعي وتكافؤ الفرص في الكثير من كتبي. وفي القاهرة أثناء مرحلة الدراسة بالجامعة انفتحت أمامي مجالات كثيرة للخبرة والتعلم، عبر المتاحف والمكتبات، ثم جاء العمل في منظمة اليونسكو، كمستشار إقليمي في تنمية الموارد البشرية، الأمر الذي أكسبني منظوراً عالماً، ومعرفة كبيرة بالدول العربية، حيث كنت أقدم المشورة في قضايا التعليم والاجتماع، وقد أتاح لي عملي في اليونسكو زيارة معظم دول أوروبا.
** هل هناك شخصيات معينة أثرت في حياتك وبقيت راسخة في وجدانك؟
- الأم والأب، عليهما رحمة الله، فإحساسهما بالمسئولية تجاهي كان طاغياً، فالأم باعت مصاغها، والأب باع بضعة قراريط من الأرض الزراعية، وذلك من أجل الإنفاق على تعليمي، حيث كنت الوحيد في قريتي الذي التحق بالمدرسة حتى قيام ثورة يوليو 1952، التي فتحت أبواب التعليم أمام الجميع.
ولا يمكن أن أنسى مدرس التاريخ في المرحلة الثانوية، فعندما كان يتحدث كان يبدو كما لو كان يعيش اللحظة التاريخية التي يتناولها أمامنا بالشرح، كنت تشعر كأنه يمثل مشهداً درامياً، فالمسألة ليست كلاماً فاتراً، حيث كان هذا المعلم يضع وجدانه ومشاعره وفقاً للمناسبة التي يتحدث عنها. وكانت الجامعة مليئة بالأساتذة، الذين مثلوا قدوة لنا في تلك المرحلة، وفهم دكتور شفيق غربال الذي كان يتحدث عن التاريخ وكأنه قصة، ولا أنسى دكتور عبدالحميد العبادي الذي كان يدرس لنا تاريخ الحضارة الإسلامية، كان مهيب الطلعة، وفي كل محاضرة كان يحمل لنا كتاباً من أمهات الكتب التاريخية والتراثية كالطبري وبابن خلدون، وكان يقرأ لنا منها فقرات، مستشهداً بما يشرحه من قضايا.
** هل هناك قيم معينة ترسخت بداخلك ولا تزال متمسكاً بها؟
- (من جد وجد) وقد أكرمني الله بأن وجدت ثمار هذا الاجتهاد، إضافة إلى تحمل المسئولية، وعدم التواكل، وكل هذا تعلمته أثناء دراستي بالخارج، بجانب أنني تعلمت كيفية المحافظة على الوقت.
** باعتبارك شيخ التربويين العرب.. كيف تتعامل مع أولادك؟
- لم أكن أبا متسلطاً، لأنهم منذ نشأتهم ذهبوا إلى المدرسة متفوقين، بدون دروس خصوصية، ولم أتبع معهم سياسة الثواب والعقاب، وحتى عندما سافروا إلى الخارج حافظوا على تفوقهم، ومن ثم عملوا في أرقي الجامعات.
** ماذا عن الصداقات في حياتك؟
- ما يحزنني أن كثيراً من أصدقائي قد توفاهم الله، وهذا شيء مؤلم، وعلى رأسهم أسامة الخولي ابن الشيخ أمين الخولي، والكاتب محمد سيد أحمد وسعيد النجار.
** وكيف تقرأ البشر؟
- من خلال سلوكهم وأعمالهم، خصوصاً حين لا يكون لديهم ميل إلى الاتجار بشيء سواء بالكتابة أو السلطة، وهذا ما يعيب الإنسان عندي، ولذلك أعيب على كثير من الأساتذة الذين يتاجرون بكتبهم.
** لو أنه أتيح لك أن تبدأ حياتك من جديد هل كنت تختار الطريق نفسه؟
- سرت في هذا الطريق بالمصادفة، وبرعاية الله، وأعتقد أنه كان طريقاً ثرياً، لم أصادف فيه مشكلة عسيرة، ولم يكن لها حل، بالمصادفة وبالاجتهاد في سبيل التغلب عليها.