Al Jazirah NewsPaper Friday  02/01/2009 G Issue 13245
الجمعة 05 محرم 1430   العدد  13245
البحر (1-2)
د. محمد بن عبدالله السحيم *

 

البحر ربيع أزرق دائم الزرقة لا يجدب، لا يمل الناس منه مهما عادوا إليه، ألهم الشعراء فهاموا به مدحاً ووصفاً، وجلس على ضفافه الأدباء فأنشؤوا نثراً ونظماً، ضربوا به المثل في السعة والعطاء والكرم وتنوع الكنوز وتعددها والاستيعاب حتى قالوا حدث عن البحر ولا حرج، كثر عنه الحديث في كتاب ربي فتارة يتحدث عن الامتنان بما فيه من النعم فهو زاخر بالحلي والجواهر، قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وفيه من المخلوقات العظيمة العجيبة التي هي آيات من آيات الله، ومن بعضها يأكل الناس لحماً طرياً قال جل ثناؤه: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}.

وضرب الله المثل بظلماته المتراكمة بالظلمة التي يعيشها الكافر ويتقلب فيها في هذه الحياة الدنيا فقال جل ثناؤه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}، فسبحان من أمد أولياءه بالنور التام وجعل أعداءه يتخبطون في دياجير الظلمات ولا يشعرون أنهم يتقلبون في هذه الظلمات حتى إذا كان يوم القيامة وجد أهل الإيمان النور ووجد أهل الكفر الظلمة التامة التي تلازمهم في دار العذاب السرمدي.

وهذا البحر لو كان مداداً أي حبراً لنفد قبل أن تنفد كلمات الله قال الله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}، فانظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى فلو كان البحر حبراً والشجر أقلاماً لنفد البحر فتعالى الله ما أعظم شأنه جل جلاله وتعالى سلطانه قال الله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

ولما أذن الله أن يكشف لبعض خلقه شيئاً مما أودعه في مخلوقاته من أسرار خلقه فتح على الناس من أسباب العلم الحديث ما يكون حجة عليهم في الإيمان بربهم قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ}، فيكشف العلم الحديث ما ذكره القرآن في وقت لم يعرف الناس من وسائل العلم ما يتمكنون به من الوقوف على دقائق الخلق وأسرار الصنعة الإلهية فتعالى الله رب العالمين.

وذكرنا الله بالفلك تجري على ظهر البحر تحمل الناس والمتاع {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، وجريانها على ظهره آية على التوحيد وشاهد على أن العبادة لا تصلح إلا لله رب العالمين قال تعالى: {اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ}.

فإذا هاج البحر خشي الناس غائلته فيلهجوا الدعاء وأخلصوا التوحيد لرب الأرض والسماء قال ربنا تعالى جده وتوالى حمده: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} فينجيهم وهم كفار لأنهم لجؤوا إليه، فإذا خرجوا منهم عادوا إلى كفرهم لأنهم نسوا أنهم سيعودون، وغفلوا عن أن مالك البر والبحر هو الله سبحانه وتعالى، فنبههم الله إلى أن المالك للبر والبحر هو الله سبحانه وتعالى وأنه كما قدر على البحر فجعله عرضة للهلاك قادر على أن يخسف بهم جانب البر قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً}.

والبحر على سعته وعظمته جندي من جنود ربك وما يعلم جنود ربك إلا هو فإذا أمره الله أن يكون عوناً لأوليائه فهو المطيع الذي لا يعصي، وكان خير ناصر ومعين، وإذ سلطه الله على أعدائه فهو الجبار الذي لا يرعوي، انظر كيف حمل موسى وهو طفل وحفظه حتى بلغ به الغاية التي أمر أن يحمله إليها، وانظر كيف أردى فرعون غريقاً ممزقاً {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}، ولما كبر موسى وكلف بالرسالة وأمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل لحقه فرعون وجنوده فكان البحر خير معين لموسى فكانا طريقاً يبساً لموسى وقومه وعذاباً مضطرماً على فرعون وجنده {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ}، وأخرج ابن جرير بسنده قال: حدثني محمد بن إسحاق قال أوحى الله فيما ذكر إلى البحر إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له قال فبات البحر يضرب بعضه بعضاً فرقاً من الله وانتظار أمره وأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه فانفلق. وهذه الحادثة التي مرت فكانت آية من آيات الله ليست هي آخر تسليط البحر على البشر فكم ابتلع من ظالم فارداه غريقاً ممزقاً، وكم باغت من أمة غارقة في معاصيها غارقة في غيها فيصبحها البحر شر صباح فإذا هي أثر بعد عين وما تسونامي من ذلك ببعيد.

وبعد هذا التطواف مع البحر نقف على خبر غريقين غرقا في البحر، فغريق نجا وغريق هلك وتفاصيل ذلك وعبره ودروسه في المقال التالي.

(*) جامعة الملك سعود



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد