الرياض - خاص بـ(الجزيرة)
أكد فضيلة الدكتور ناصر بن عبدالكريم العقل أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن الأمن مسؤولية الجميع، ولا يمكن أن يتحقق العمل بشرع الله والاستقرار والنهوض الحضاري والتقدم المجتمعي إلا بالأمن، كما أن الإخلال بالأمن يؤدي إلى الفتن والشرور، والأهواء، وحذر الدكتور العقل كذلك من المنافقين الذين يرفعون شعارات كاذبة أو يدعون الإصلاح وهم أبعد ما يكونون عنه، وطالب بمواجهة شاملة للفئة الضالة الذين يكفرون الناس ولا يتورعون عن سفك الدماء، وللمنافقين الذين يفسدون باسم الإصلاح، جاء ذلك في حوار ل(الجزيرة) مع الدكتور ناصر العقل وفيما يلي نصه:
* كثر الحديث عن الأمن الفكري وأهميته وأنه لا يقل خطورة عن الأمن المجتمعي فماذا يعني الأمن الفكري؟
- الأمن الفكري مصطلح جديد يقصد به ضرورة وجود الاستقرار والطمأنينة في الحياة، وتأمين الضرورات الخمس؛ لتستقيم حياة الناس في دينهم ودنياهم، كذلك يقصد بالأمن الفكري رعاية الحقوق للعباد وهذا أيضا لا يكون إلا بحفظ الضرورات الخمس التي لا يمكن أن تكون إلا بالأمن، والأمن لا يكون إلا بالعقيدة السليمة، وبالفكر المستقيم، وبالسلوك المعتدل.
والضرورات الخمس (وأولها الدين) لا يمكن أن تحفظ، وتؤتي ثمارها في قلوب الناس، وفي أعمالهم، وفي علاقاتهم مع بعضهم، ولا تؤتي ثمارها في الحياة الدنيا وفي الآخرة إلا إذا وجد الأمن فلا يمكن حفظ الدين إلا بالأمن، ولا يمكن حفظ العقول الرشيدة والآراء السديدة إلا بالأمن، ولا يمكن - أيضا - حفظ أعراض الناس وأموالهم إلا بالأمن، فإن الأمن ضرورة يجمع عليها جميع عقلاء العالم، وأنه لا يمكن لحياة الناس أن تستقيم إلا بالأمن وفي الإسلام خاصة نجد أن هذا هو من أعظم المسلمات التي يسلم بها الجميع، ولذلك فإن من خرج على هذا الأصل فلا بد أن يراجع عقله، بل من ثوابت الدين أن من قام بعمل يخل بالأمن فهو خارج عن السنة والجماعة والطاعة كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
* ولماذا يتعدى البعض عن هذه الكليات التي لا حياة بدونها؟
- الغلو في الدين من أعظم الأسباب التي تجعل بعضا من بني آدم تنغلق عقولهم وأذهانهم عن إدراك هذه الضرورة القصوى التي ليست فقط ضرورة للبشر، بل لجميع المخلوقات، فجميع المخلوقات لا يمكن أن تعيش حياة طبيعية إلا بالأمن، إذاً هو ضرورة، ولذلك اهتم الإسلام بهذه الضرورة حينما جاء بحفظ الضرورات الخمس وحرم الغلو والفساد، وأيضا هناك مطلب يتفرع عن الضرورات الخمس، بل هو سبب لها، وهو مطلب يسعى إليه كثير من الذين يخلون بالأمن، وهو إقامة شرع الله - عز وجل - وتحقيق التوحيد ونفي الشرك، ولا يمكن تحقيق التوحيد، ونفي الشرك وهي الغاية الكبرى التي بعث الله بها الرسل، والقاعدة الأساس التي يدعو إليها كل مصلح، وكل داعية، وهي: {أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}، وهذه الغاية لا يمكن تحصيلها إلا بالأمن.
* وما أسباب ظهور الغلو، وبالتالي الإخلال بالأمن؟
- أعظم أسباب الغلو: الجهل والحماس غير المنضبط، وترك الرجوع للعلماء، والتهور والتعجل، وسيطرة الأهواء وكيد الأعداء، فإن هناك طائفة من الناس يخلون بالأمن باسم الدين، وأحيانا باسم الإصلاح كما هو عند طائفة أخرى، وفي مثل هذا المقام يجب أن نخاطب الذين تسببت مناهجهم بالإخلال بالأمن، كما نخاطب الذين كانوا الأدوات والوسيلة للإخلال بالأمن لأنه في الحقيقة أن الناظر إلى وجود بعض الأفكار الضالة والمنحرفة التي هي سبب رئيس في الإخلال بالأمن في كل مراحل التاريخ، وفي هذا العصر الذي نعيشه كذلك نجد أنها تدور حول تيارين على مدار التاريخ لكن تختلف الألوان، والأشكال، والشعارات، والتيارات التي تخل بالأمن نجد أنها على نوعين، النوع الأول: الغلو في الدين والذي يكون فيه الإخلال بالأمن بدعوى نصرة الدين والغيرة عليه بأشكال وألوان مختلفة، وبشعارات وألقاب كثيرة عبر التاريخ وأول من فعل ذلك السبئية الأولى الذين نتج عنهم الافتراق، نتج عنهم شعب كثيرة من الافتراق لا كما يظن الناس أن السبئية أنتجت الخوارج فقط.. بل الخوارج ثمرة واحدة من ثمار السبئية النكدة، والسبئية إذا أخذناها بمصطلحاتها المعاصرة، عبارة عن عمل استخباراتي عال تواطأ عليه مجموعة من الموتورين الذين أرادوا تقويض الأمة الإسلامية من المجوس واليهود وغيرهم من أصحاب الديانات، وأصحاب الفلسفات الضالة.
فمنذ أن ظهرت تلك الظاهرة وبعدها جاءت ظاهرة الخوارج وهي عبارة عن بذور في الغلو تبدأ وتنشأ في طوائف من الأمة يستحكم فيهم الغلو ثم تظهر آثارها في الإخلال بالأمن بدعوى الإصلاح وهذه الجماعات التي تخل بالأمن عبر التاريخ تحمل إحدى رايتين إما راية الغلو في نصرة الدين والغيرة عليه وهذه الغاية خادعة لأن الأمة الإسلامية بعمومها لا تقبل راية إلا راية الدين، والتدين إذا زاد عن حده الشرعي وخرج عن الثوابت وتمرد على المرجعية فلابد أن يؤدي إلى الغلو، والغلو يستحكم بصاحبه، بعقله وقلبه حتى لا يستبصر الحق ويضيق فكره وتنغلق عواطفه بل تنقلب عواطفه من صفات الرحمة والعطف إلى صفات القسوة والعدوانية وانظروا إلى التاريخ القريب والبعيد، تروا صاحب الغلو يكون قصير النظر لا يتجاوز تفكيره ما بين رجليه وهذا واقع وطبقوا مثل هذه الأوصاف حال الذين يقعون فريسة الغلو في الدين من شبابنا، النوع الثاني من الإخلال بالأمن هو نوع خفي على كثير من الناس وهو الانفلات من الدين، أعني النفاق وذكر ذلك في أول هذا الحديث، وكل من هذين التيارين يغذي الآخر على مدار التاريخ.
غالبا إن مظاهر الانفلات من الدين تكون من طائفة من الناس من المنافقين والموتورين أو الذين يدعون التدين والغيرة على الدين أو يدعون الإصلاح وإن لم يدعوا التدين لأن غالب أصحاب الانفتاح المنفلت لا يدعون التدين إلا من باب التلبيس، وليس عندهم نزعة غلو في الدين إنما العكس يدعون الإصلاح خاصة في عصرنا وهذه التيارات والاتجاهات يجمعها وصف النفاق فهذه أوصاف المنافقين يدعون أنهم لا يريدون إلا الإصلاح لكنهم هم المفسدون ما ذكر الله عز وجل: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} فهؤلاء هم التيار الثاني الذي له أثر فعال في الإخلال بالأمن، نعم إن أعظم سبب لظهور الغلو الآخر وهي الغلو في الدين (الذي هو الإفساد في الأرض باسم التدين والإصلاح الديني) فأول سبب فيه هو التيار الآخر تيار الانفلات والنفاق، وكل منهما يغذي الآخر.
* وكيف يمكن مواجهة هذا الانحراف والانفلات؟
- الإسلام واجه هذه الضلالات بثوابت ربانية إذا عملنا بها فهي الحلول الحاسمة لمثل هذه الظواهر وغيرها، نعم يوجد العلاج، في قواعد الشرع، ومنهج السلف الصالح، ومن عبر التاريخ فإنه ليس من عادة الغلو أن يطول نفسه في هذا العصر نجد مظاهر الغلو خلال العقود الماضية توالت ولا تزال تنبعث بتسارع عجيب، فالإفساد والتفجير والتخريب والتكفير باسم الدين طال عمره عن المعتاد في السنن الماضية وأجد أن أول سبب في استمرار الغلو في داخل بلادنا والبلاد الإسلامية الأخرى هو التيار الآخر المخل بالأمن وهو تيار المنافقين الذين يستهدفون العقيدة بكل ما يملكون من أنواع التحطيم لا سيما في وسائل الإعلام، فقد استهدفوا أغلى ما تملك الأمة وهو عقيدتها وأعراضها ونسائها وشبابها، ونهشوا بأقلامهم وألسنتهم المسمومة أغلى ما تملك الأمة وهو دينها وثوابت الحق في عقيدتها ومرجعيتها وهم العلماء بكل جرأة وصفاقة، هذا المغذي الأول لاستمرار الغلو الآخر، ثم هناك أسباب أخرى لا نستهين بها، من وجود الأحداث العالمية، وما تعيشه الأمة من مظاهر الذل والهوان، من ذلك الكفار المتسلطون على مقدرات الأمة تسلط ظاهر، ونحو ذلك من الأسباب، فهؤلاء الذين وقعوا في غوائل الغلو وأثرت فيهم الأسباب، أخطأوا حينما لم يرجعوا إلى علمائهم وإلى قواعد الشرع، لكن يجب أن نقول الحق ونعدل.
* كيف يمكن التعرف على بقية أسباب الغلو لعلاجه؟
- نعم: علينا أن نعرف أسباب هذا الانحراف وأسباب استمراره من هذا الفريق ومن ذاك لنتعاون على علاجه دولة وعلماء ودعاة ومصلحين وآباء بل المجتمع كله اليوم يجب أن يستنفر بطاقاته بحكمة في علاج هذه الظواهر التي أصبحت تيارات تؤثر في حياتنا اليومية تأثيرا سيئا بالغا، ولم تعد تؤثر في طائفة أو فريق منا بل الأمر أكبر من ذلك تستهدف أمننا وديننا وعقيدتنا وأعراضنا وأموالنا وتستهدف سلطاننا وجماعتنا لأنها بهذا الأسلوب الذي تريد فيه الإخلال بالأمن تجر الجميع إلى المصيبة والكارثة الكبرى، الكارثة على الجميع.
فأعجب ولا ينقضي عجبي كيف يقف أصحاب الرأي والمشورة من لديهم علم موقف المتفرج ويتركون الإسهام في علاج هذه الظواهر وتركوا الأمر على السلطة فقط (في الغالب) أو على فئة من علمائنا ودعاتنا المخلصين فهناك صنف متفرج وهذا المتفرج ماذا ينتظر؟ (وما أكثره)، بل ربما بعضهم بدافع الانفعال غير المتزن أحيانا يقف مواقف هي في سبيل الفتنة وتغذية هذا الفكر الغالي الذي يريد أن يحطم العقيدة ويحطم الأمن باسم الدين، يريد أن يحطم مقدرات الأمة ويضرب بعضها ببعض باسم الدين يريد أن لا يبقى للأمة كيان في هذا الوقت الذي هي بحاجة إلى أن تلملم شعثها وأن تجتمع كلمتها.
نعم: أعجب ولا ينقض عجبي من هذه الفئة الصامتة سواء من المربين أو طلاب العلم أو الآباء ومن أصحاب الرأي والمشورة، لم يعد الأمر الآن فرض على طائفة ما دام الأمر في مجتمعه وصل إلى هذا الحد بأن يجند أبناؤه لهدم كيانه سواء من قبل الذين غلو في الدين واستهدفوا الإخلال بالأمن باسم الغيرة والجهاد أو الذين انفلتوا من جميع الضوابط الشرعية والثوابت فصاروا يهدمون قواعد ديننا في بلدنا وبمعاول من بلدنا وبألسنة أبناء جلدتنا، هذا فساد كبير وعظيم يجب أن لا نستهين فيه ولا نكتفي بأن نتفرج.
* وأين دور الآباء والأمهات؟
- الحق إن البعض من أبناء مجتمعنا من آباء وأمهات ومربين لازالوا غافلين ولو تفطنوا لهذا الواجب، لعرفوا أن المسألة لم تعد مسألة واجب على فئة أو على الدولة فقط ولو تفطنوا لكان لهم أثر كبير في حماية أبنائنا م الوقوع في غوائل هذين التيارين.
* ما مرتكزات الأمن في هذه البلاد المباركة؟
- الأمن في هذه البلاد المباركة قام على مجموعة من الثوابت والركائز التالية، أولها، (أو الجامع لها) أن هذه البلاد قامت على اعتماد الإسلام منهج حياة، وما جاء هذا الأمن الذي نعيشه، ومظاهر اجتماع الشمل الذي نحن عليه، ولا نزال بحمد الله ما لم نفرط فيه، و هذا الكيان الذي انتصر فيه الإسلام والسنة، وظهر الخير وانقمعت البدع كل هذا بسبب تلكم الدعوة الإصلاحية التي قامت السنن وأزالت البدع دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب، حين ناصرها الإمام محمد بن سعود وأحفاده، وستبقى هذه النعمة ما لم نفرط فيها، والركيزة الثانية أن هذا العقد المبارك بين الإمامين (محمد بن عبدالوهاب، ومحمد بن سعود - رحمهما الله -) استمر (العقد والعهد بين الدعوة والدولة) إلى يومنا هذا حيث التزمت الدولة بالتوحيد، وإقامة شرع الله - عز وجل - على وجه معتدل يعتمد طاعة السلطان، ويعتمد مرجعية العلماء، فالملك عبدالعزيز - رحمه الله - أقام ملكا على التوحيد، فقد وفق وسدد، وظهرت منه مظاهر الصدق لنصره للتوحيد، أولها ظهور هذا الكيان، على السنة، ونصره للإسلام، وشعائر الدين، وثوابت الحق، وإلى اليوم وهذه الدولة تحمل هذه الثوابت وهي: الإسلام والسنة والجماعة والبيعة والطاعة والأمن، والمقدسات ومهبط الوحي ومأرز الإسلام.
فيجب أن نحافظ على هذه المكتسبات المستقرة بحمد الله في نظام الحكم، وفي القضاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها، وأن نحرص على السمع والطاعة لولاة الأمر والبيعة والنصيحة واجتماع هذه البلاد على هذا النحو الذي لا يوجد مثيله في البلاد الإسلامية الأخرى فنعمة الرخاء هذه كلها نتائج حفاظ أجدادنا وآبائنا وما بذلوه من نصرة السنة (حكاما ومحكومين) فلا نفرط بهذه المكتسبات ونخرب بيوتنا بأيدينا وأيدي أعدائنا (لا قدر الله)، فالغلو والانفلات كلاهما شر وفساد، نسأل الله أن يحفظ لنا ديننا وأمننا ويصلح ولاتنا ويجمع كلمتنا جميعا على الحق والهدى.