ساقني القدر لعيادة شخص في مسكنه في أحد أحياء الرياض ولم أكن أعلم أن عملي قد أبعدني لسنوات عن أحياء وشوارع الرياض، المهم أنني أوقفت سيارتي بجانب ما اعتقدت أنه منزلهورحت أبحث عن مدخل المسكن الذي كان يبعد بعض الخطوات عن سيارتي، ..
...وقد هالني ما رأيت من شباب في عمر الزهور على هيئة مجموعات، ألوان ملابسهم تسرق البصر وأشكال لباسهم تثير العجب، فذاك لبس بنطالاً من الجينز العريض يعلوه قطعة رقيقة من القماش بلون أحمر وآخر بنطاله يكاد يقع على الأرض ليس لطوله بل لتعمد لبسه دون الحزام وفوقه أيضا لباس أزرق فاقع، ومجموعة أخرى أشكال أفرادها مرعبة، فقد تعمدوا إطالة شعورهم حتى بدا لي رأس أحدهم كشجرة وتعمدوا ارتداء الرث من الملابس. الأدهى والأنكى من ذلك أن معظمهم كانوا من المدخنين الشرهين حيث استوقفني أحدهم ليسألني عن حاجتي فسألته مذعوراً عن المسكن الذي أبحث عنه وقام بوصفه لي ولم تكد السيجارة تنتهي حتى هم بإشعال غيرها وأنا أجزم أنه لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره. الغريب أيضا استخدامه لبعض الألفاظ التي لم تآلفها أذني المتخلفة فأخذت أسئلة عن معنى بعض الكلمات بينما كاد رفاقه أن يغشى عليهم من الضحك ربما على بلاهتي أو على تخلفي أو ربما كان يقصد ببعض ما قاله لي غير ما شرحه، لا أعلم. جل ما أعلمه أنني تمزقت غيظاً وألماً لحالهم وحال شبابنا. زرت مريضي وكنت أفكر بما شاهدته وخبرته وخرجت أهرول لسيارتي وخرجت بها إلى الطريق العام مسرعاً عائداً لمنزلي وأنا أفكر وأسأل نفسي جملة من الأسئلة.
أطفالنا، شبابنا الصغار، عضد الأمة ومستقبلها، أوعية تتلقى كل يوم مؤثرات من البيئة المحيطة بهم، وهم بحكم سنهم لا يميزون بين الغث والسمين، وقد تكون هذه المؤثرات إيجابية وتربوية فتصقل عودهم على مكارم الأخلاق، وقد تكون سلبية فتؤدي إلى الانحراف والميل عن جادة الصواب ولا سيما إذا اشتد عوده وبلغ سنا لا يفيد معه الإصلاح والتهذيب
كان الأطفال فيما سبق أي قبل الثورة الفضائية يتلقون ثقافتهم غير المنهجية عن طريق القصص ومجلات الأطفال التي غالبا ما يختارها الأبوان أحدهما أو كلاهما، وأغلب هذه المطبوعات جيدة تربوية وضعها عدد من التربويين والحريصين على تنشئة الطفل.
وقبل انتشار المجلات والقصص وفي القرون الغابرة كان الآباء يحرصون على تلقي أبنائهم الآداب النافعة فالقادرون منهم كانوا يحضرون لهم المربين والمؤدبين ويوصونهم بجملة من الوصايا حفلت بها كتب الأدب.
أما اليوم في عصر الفضائيات الهابطة تقلص دور المجلة والقصة والمربي والمؤدب إلى حد كبير وصار الاعتماد على الفضائيات جلياً وانعكس ما تبثه على أبنائنا فأثرت فيهم تأثيرا واضحا ولا سيما المولوعون منهم بالبرامج الغريبة عن ديننا ولغتنا وعاداتنا وتاريخنا، حتى كادت تنزعهم عن أصالة مجتمعهم.
ما هو الحل؟ هل نعزل أطفالنا عن هذه الفضائيات التي أصبحت شراً لا بد منه عند أكثر الناس؟ وهل نظل نبكي على ما آلت عليه حالنا أم نسعى إلى محاولة لإيجاد حل لهذه المشكلات التي أصبحت تؤرق الآباء والمربين والمسؤولين في بلادنا.
والحل كما هو معلوم إيجاد عدد من برامج الأطفال التي تشد أطفالنا إلى القيم ومكارم الأخلاق عن طريق البراعة في الإنتاج والإخراج والعرض، ربما يكون الأمر صعبا بل شبه مستحيل في هذا الزخم الفضائي المخيف، ولكن يجب العمل والاجتهاد بتضافر جهود كل من له علاقة بتربية الأطفال، ولا تكفي النوايا الحسنة والأعمال المتواضعة وحدها بل قد تضر أكثر مما تفيد، فالطفل الذي ينتقل حول العالم من محطة لأخرى ويرى ما يسلب لبه ويذهل عقله أصبح يقلع عن البرنامج الطيبة والإرشادية والتي تحمل في طياتها الحكم والمواعظ والتي يتم إخراجها وإنتاجها بشكل متواضع دون إثارة أو تشويق.
أما مدى تأثير وسائلنا الإعلامية الإسلامية في النشء فنرى أن وسائل الإعلام المقروءة نجحت إلى حد ما في اجتذاب الأطفال والتأثير فيهم قبل عصر الفضائيات، فهناك العشرات من دوريات الأطفال الناجحة ومئات من القصص التربوية سدَّت النقص في أدب الأطفال والسبب أن الإعلاميين الإسلاميين نجحوا في الإعلام المقروء، وما زالوا في بداية الطريق بالنسبة للإعلام المرئي والمسموع لعدة أسباب يضيق المجال لذكرها، والإعلام المرئي بحاجة لإمكانيات مادية باهظة يعجز عنها أصحاب النوايا الطيبة والتربويون الحريصون على تنشئة الأجيال.
والمتتبع لهذه الأعمال الجادة خلال مسيرة البث التلفازي يجدها قليلة، وأما الجيد منها فهو نادر لا يستطيع جل أطفالنا مشاهدته بسبب عدم عرضه على شاشات التلفاز بسبب بعض المشكلات أهمها محاربة مثل هذه الأعمال من قبل بعض القائمين على المحطات التلفازية، ومنها احتكار الشركات المنتجة لمثل هذه الأعمال لمدة طويلة وبيعها على أشرطة فيديو أو أقراص مدمجة بحجة أنَّ المحطات التي توافق على عرض مثل هذه الأعمال لا يدفعون أسعارا مناسبة، وهذه مشكلة بحد ذاتها يتفرع عنها مشكلات أخرى تصب في النهاية إلى الإعراض عن إنتاج مثل هذه الأعمال وتطويرها.
والمشكلة كما يبدو أنها مشكلة مادية بالدرجة الأولى فلو ربح القائمون على إنتاج مثل هذه البرامج لتشجعوا وتشجع غيرهم ولامتلأت الفضائيات بما يفيد أطفالنا، ولكن كيف يربحون والمحطات التلفازية التي توافق على عرض الأعمال الجيدة لا تدفع إلا القليل؟ في الوقت الذي تغدق فيه على البرامج السطحية مئات الآلاف من الدولارات.
وليت الأمر يقف على ما تبثه المحطات التلفازية من برامج للأطفال، فالخطر ما نراه اليوم إذ صار كثير من أطفالنا في هذه الأيام ومع الانفتاح الفضائي وعدم وجود رقابة أسرية متأثرين ببرامج الكبار أيضا فنرى بعضهم معجبين بالمطرب الفلاني أو المطربة الفلانية وأصبحوا يحفظون أغانيهم أكثر مما يحفظون من الأناشيد المدرسية. ونخشى أن يأتي اليوم الذي نقول فيه: ليت الأمر يقف على ما تبثه المحطات الفضائية من أغان ومسرحيات ومسلسلات.
لا بد من حل لهذه المشكلة والحل ربما يكون في دعم وزارات الإعلام والمؤسسات الثقافية الرسمية والجمعيات الخيرية للشركات الفنية المهتمة بأدب الطفل أو تخصيص جزء من زكاة الأموال للإعلام الإسلامي.
لكن علينا أن نفهم أولاً ماذا يريد أولادنا، علينا أن ننقل لهم ما نرضاه بطريقتهم لا بطريقتنا، لا تتوقعوا أن يشاهد أولادنا اليوم برنامج مسابقات ساذج بارد لا طعم له ولا رائحة، أبناؤنا يبحثون عن الإثارة، يبحثون عن الأفلام الأجنبية المتقنة التي تجتذب الأطفال من خلال الإثارة المتمثلة ربما بالسيارات أو بالرعب أو بما يسمى بالأفلام البوليسية. علينا أن ندرك أن السم الذي يراد له أن ينقل لأبنائنا، يتم نقله عبر هذه الأفلام وهي ليست بالهابطة في نظرهم، علينا أن ندخل لعقولهم كما دخل غيرنا وأن نبث القيم التي نريد من خلالها كما يبث الغرب السم. لماذا لا تكون برامج الأطفال والشباب مشابهة لتلك الغربية لكن بصناعة عربية، بصناعتنا نحن، نمرر من خلالها ما شئنا من قيم يتلقفها ويتعلمها الناشئة. دعونا نستخدم الدعاية ذاتها والسلاح نفسه. لن يميل أبنائنا لأعمال مختلفة عن تلك، فقد أحبوها ورغبوها، فلماذا لا ندخل إليهم من خلالها ولا نغالط ونعاند أنفسنا فكما يقال إنك تستطيع إيصال الخيل للساقية لكنك لا تستطيع إرغامها على شرب الماء.
لقد استعانت إحدى شركات الإنتاج في دولة عربية بخبرات غربية في صناعة الأعمال الفنية ونجحت في جذب الكثير من شبابنا لأنها وضعت الفكرة والمضمون والمحتوى في قالب غربي جاذب اليوم لأبنائنا. فما المانع إذا من استخدام أدواتهم في إيصال ما نشاء إلى شبابنا. وحينما تنقش على قلب ابنتك الحياء وحب الستر وحب إرضاء الله، فإن هذا النقش لن يزول مادمت قد استحفظت الله سبحانه عليه.
فلا تتركوا أولادكم لكل ما هب ودب وأراد سلب الحياء والإيمان منهم بمسلسل كرتوني محبب الألوان والأشكال أو فلم أو برنامج بديع الإخراج هابط المضمون والفكرة.
عساكم تحصلون على مؤمنين صالحين فتنالون ثواب تربيتهم بدلاً من إطعامهم وتسليتهم فهذا والله أقرب إلى تربية الكلاب المدللة والقطط، أما الأولاد فهم عقول وقلوب ومبادئ ثم أجسام مفردهم الإيمان والحياء والجد والعمل وأشغلوهم بالله ومرضاته، عن اللعب المستمر والطعام الذي صار لهم اليوم هماً جليلاً.
والله من وراء القصد،
dr.aobaid@gmail.com