لم يكن يوجد في المدينة المنورة حيث ولدت ونشأت، أحد يدخل إلى المسجد أو المنزل أو المكتبة بالحذاء، لذلك كانت صدمتي كبيرة عندما وصلت الرياض، واتخذت لي من أحد المساجد مقاماً للمذاكرة حيث التكييف والسجاد والإضاءة، فقد وجدت بعض الناس يدخلون للصلاة بأحذيتهم، وبعد ذلك وجدت الناس يدخلون المجالس والاستراحات بأحذيتهم، حتى إنني كثيراً ما شعرت بالحرج وأنا أجلس معهم حافي القدمين، حتى استوعبت وعرفت أنك إذا (دخلت ديرة خذ دلها أو خلها!!) وهو مثل صحيح.. لكن الغريب أن الذين يدخلون المساجد والمنازل بأحذيتهم وبدونها، يكنون احتقاراً شديداً للحذاء، رغم أنهم يختارونه ويدفعون قيمته عن طيب خاطر ويلمعونه بأنفسهم أو بواسطة زوجاتهم كلما هموا بالخروج من المنزل.. ما هو السر؟ العيب فينا أم في أولئك الذين لا ينظرون إلى الحذاء نظرة احتقار، ولا تطير الرؤوس عندهم إلا إذا وصف أحدهم بأنه مثل (الجزمة) أو (ابن جزمة) أو إذا جلس أمامه ومد حذاءه في وجهه أو وضع أمامه رجلاً على رجل.. حتى بوش وهو رئيس أكبر دولة طلب من العراقيين بعد وصوله إلى واشنطن غانماً سالماً أن لا يعطوا موضوع الحذاء الذي وجه إليه أكبر من حجمه، في الوقت الذي انتشرت في الدنيا التي تكره الحذاء، نكت سوداء، فمن توجيه لرئيس إحدى الدول العربية بعقد المؤتمرات الصحفية في أحد المساجد، إلى دعوة من بوش لأحد الزعماء العرب بأن لا يحضر إلى البيت الأبيض هو والوفد المرافق له بالأحذية إلى مطالبة ابنة رئيس دولة عربية خلعت ملابسها الداخلية ليرضى عنها بوش (الدولة وليس البنت!) هذه الابنة طالبت الحكومة العراقية بمنح راشق بوش بالحذاء وسام الوفاء والشجاعة، أما النكتة الأكبر فقد انطلقت من أرضنا حيث عرض مواطن قادر شراء فردتي الحذاء بعشرة ملايين دولار، وقد قال هذا المتبرع إنه يملك عقارات وأراضي كثيرة تزيد قيمته عن المبلغ المعروض معتبراً أنه فتح مزاداً بذلك على ما اعتبره وسام الحرية وليس حذاءً مجرداً وأن وجهاء ومشايخ في قبيلته عبروا عن تضامنهم معه والمساهمة في شراء الحذاء مهما وصل ثمنه في المزاد وأن المبلغ جاهز لديه! وهو يعتبر الحذاء (أغلى من كل عقاراته وأملاكه وسيورثه لأولاده ليصبح مزاراً باسم وسام الحرية (القبس الكويت ص 62 16122008م)، إن هذا المبلغ كاف لشراء ملابس الشتاء لفقراء قريته، إلا أن الواحد لا يملك مع هكذا كرم إلا ترديد المثل الحجازي (قالوا الجاوة ياكل حلاوة.. قالوا لو بفلوسه!) و(من حكم في ماله ما ظلم).
هذا الحذاء لو وجه لضيف على العراق في زمن صدام، لكان مكان الزيدي وجيرانه وأقاربه كلهم في قدر مليء بماء النار، أو على الأقل فإنهم سوف يأتون بكل الأحذية ويجعلونها وجبة لمن تجرأ على الضيف.. لكن ثمن الحرية كبير، من ثمارها التي سوف يقطفها الزيدي أن أحداً من أسرته لم يعتقل وأنه بالكاد سوف يحصل على عامين سجناً أو لفت نظر خصوصاً بعد توصية بوش بأن لا تعطي الحكومة العراقية أهمية للحذاء الذي كاد يدمر رأسه، ليس مرة واحدة ولكن مرتين، وبدلاً من ذلك وهنا المفارقة طال علم العراق!
وكما أسلفنا سوف يدخل هذا الحذاء التاريخ من أوسع أبوابه، شريكاً للأحذية التي طالت تمثال صدام، لكن التاريخ أيضاً سيقول بأن صحفياً ولأول مرة ربما، استبدل القلم واللسان، بالحذاء، وهي سابقة تكرس في تاريخنا بأحرف من فحم وقطران، فنحن ننادي بالحرية ونضيق بها، ونحن ننادي بالحوار ونضيق به، ونحن ننادي بإكرام الضيف، حتى وإن كان بثقل دم وعنجهية جورج بوش، ونقوم بعكسه!.
لو قام بهذه الفعلة رجل من الشارع، لأصبح شجاعاً ومدافعاً عن حق أعتقد أنه مهدر لكن أن يقوم بذلك حامل قلم، فهي سابقة غير مقبولة، ومن يدري ربما يأتي علينا في مقبل الأيام من يدعو الصحفيين لمؤتمر صحفي وعند الباب يجردهم من الأحذية والأقلام والكاميرات ولا يبقي لهم غير ألسنتهم وفي حالة الخطأ لن يخرج الصحفي من المؤتمر إلا وهو بنصف لسان وربما بدونه، فليس كل الزعماء يتمتعون بالروح الرياضية التي يتمتع بها بوش في تجاوزه الحذاءين وفي قبول اعتذار زملائه وفي التوصية بعدم تحميل الموضوع أكثر مما يحتمل.
فاكس: 012054137