Al Jazirah NewsPaper Thursday  01/01/2009 G Issue 13244
الخميس 04 محرم 1430   العدد  13244
دراسة في علم الصرف وفي رجاله ومصنفاته
أ.د. عبدالكريم محمد الأسعد*

 

نسب إلى معاذ الهراء المتوفى 187هـ وضع علم الصرف، وقد رأى (البعض) أن هذا خطأ وأن معاذاً لا يعدو أن يكون واحداً من أعيان الطبقة الأولى من علماء الصرف في الكوفة لأنه عاصر سيبويه البصري الذي خلَّف لنا في (كتابه) جمهرة ما يتعلق بالصرف حتى كاد أن يكون علماً مكتملاً، والحقيقة (عندهم) هي أن معاذاً برع فحسب في صياغة الأبنية الافتراضية لتدريب المبتدئين وهي التي سميت (مسائل الامتحان) كقوله: (صغ من خرج على وزن دحرج فيقال خرجح)، ويبدو أن براعته في صياغة هذه الأبنية والإكثار منها هما اللذان حملا الجلال السيوطي المتوفى سنة 611هـ على أن يؤكد ما ذهب إليه سابقوه من نسبة وضع علم الصرف لمعاذ في كتابه (بغية الوعاه).

وقد ورّط السيوطي في الخطأ من نقلوا عنه من أصحاب الشروح والحواشي والكتب كالأشموني في شرحه لألفية ابن مالك، وكالصبان في حاشيته على هذا الشرح، وكابن عقيل في شرحه لها، وكالخضري في حاشيته على شرح ابن عقيل، وكالحملاوي في كتابه (شذا العرف)، وترتب على هذا الخطأ تثبيته في نفوس الدارسين وعقول الباحثين كما يقول الشيخ عبدالحميد عنتر في كتابه (تصريف الأفعال)، ويرى الشيخ محمد محي الدين عبدالحميد في كتابه دروس التصريف (أن معاذاً إنما كان يتكلم دائماً في مسائل التمرين لغرض التدريب، وأن ما اشتهر عند الباحثين من وضعه الصرف لا يستقيم على إطلاقه فقد كانت مسائل هذا العلم تدرس قبل معاذ مع مسائل العربية بوجه عام ومع مسائل النحو بوجه خاص، والذي يمكن أن تطمئن النفس إليه أن معاذاً هو أول من تكلم في الصرف مستقلاً عن فروع اللغة العربية وأن العلماء من بعده ترسموا خطاه وتقبلوا منهجه واتبعوا سبيله واقتفوا أثره حتى تم نضج هذا العلم واستقامت مباحثه، وعلى هذا المعنى دون ما عداه يصح القول بأن واضع هذا العلم هو معاذ الهراء).

وقد آل علم الصرف في نهاية المطاف إلى الاستقلال، فالاكتمال جرياً على سنن الترقي، وعند ذاك تميز عن علوم العربية عامة وعن علم النحو خاصة بشكل تام وصار له مباحث محددة لا يشاركه فيها غيره وعلماء يتفردون بدراسته ومصنفات يستقل بها وتستقل به وتم تخليص مسائله من مسائل النحو وأصبحت هذه المسائل علماً مستقلاً متميز الموضوع.

ويعد المازني المتوفى 247هـ أو سنة 249هـ بطل طور الاستقلال؛ لأنه أول من فصل الصرف عن النحو فصلاً حقيقياً كاملاً ووضع فيه كتابه المعروف (التصريف)، وكانت قد جرت قبله محاولة قام بها تلميذه سيبويه (قطرب) المتوفى سنة 206هـ على المشهور لفصل مباحث الصرف عن مباحث النحو في كتابيه (العلل) في النحو و(الاشتقاق) في التصريف، لكنها كانت مجرد بداية لم تستحكم وبقي الفضل الأكبر في الأمر للمازني الذي صنف أول كتاب متكامل في علم الصرف.

أما أبو علي الفارسي المتوفى 377هـ وتلميذ ابن جني المتوفى 392هـ فإنهما يعدان بشرح كل منهما (تصريف) المازني عنواناً للدرس الصرفي في زمانهما وبداية مشرقة لطور الاكتمال الذي بلغ أوجه في القرنين السادس والسابع الهجريين.

وممن أسهموا في الدرس الصرفي في طور الاكتمال عبدالقادر الجرجاني المتوفى 471هـ أو سنة 474 هـ الذي كان له فيه تأثير قوي وجهد مذكور وإحاطة واسعة ولا سيما في كتبه (المقتصد) و(المغني) و(العمدة) أنبأت جميعاً عن تمكنه في هذا العلم.

وقد مر علم الصرف قبل أن يصبح علماً متكاملاً مستقلاً بنفسه بمراحل تطور متعددة، فقد كان في البداية المبكرة موضوعاً لأبحاث معينة ووضعت فيه آنذاك كتب في (المقصور والممدود) لطائفة حسنة من المتقدمين كاليزيدي المتوفى سنة 202هـ والفراء المتوفى سنة 207هـ والأصمعي المتوفى 213هـ أو 217هـ، ووضعت فيه أيضاً كتب في (الهمز) لقطرب والأصمعي وغيرهما، ثم ظهر الجمع بين النحو والصرف في كتاب سيبويه، ثم أخذت الكتب المستقلة تظهر في الصرف وحده كما رأينا في تصريف المازني ثم فيما تلاه وكتب أبي علي الفارسي وابن جني وعبدالقاهر وغيرهم، وبهذه الكتب اكتمل صرح التصريف وتميز التأليف فيه باستقلاله التام عن التأليف في النحو وبلغ هذا التأليف ذروته على يد هؤلاء العلماء فوضعوا أهم مصنفاته وأكملها وأدقها وأكثرها تهذيباً وتوضيحاً وعنوا فيها بدراسة أصول الصرف وفروعه وبوضع الضوابط الدقيقة لمسائله والموازين المحررة والحدود الجامعة المانعة لقواعده بهدف الإبقاء على الصواب في اللغة وإبعاد الخطأ واللحن في مفرداتها وبقصد ضبط هذه المفردات والمحافظة على سلامتها وصحتها.

وعلى الرغم من اتساع دائرة الاستقلال في التأليف الصرفي في مرحلة الاكتمال على نحو ما فعل المازني والفارسي وابن جني فإن اتجاه سيبويه في التصنيف بقي موجوداً واستمر الخلط في كثير من المؤلفات بين النحو والصرف قائماً وبقي إلحاق المباحث الصرفية بمباحث النحو مستمراً وأصبحت مصنفات النحو إما مذيلة بعلم الصرف أو على الأقل متضمنة لمباحثه، ومن أبرز المؤلفات التي تدل على هذا الاتجاه كتاب (الجُمل) للزجاجي المتوفى 337هـ وشرح السيرافي المتوفى سنة 368هـ لكتاب سيبويه وكتاب (المفصَّل) للزمخشري المتوفى 538هـ وكتاب (القانون) الذي يعرف بـ (المقدمة الجزولية) للجزولي المغربي المتوفى 605ه ومنظومة (الدرة الألفية في علم العربية) لابن معط المتوفي سنة 628هـ وشرح ابن يعيش المتوفى سنة 643هـ على المفصل وكتاب (الشافية) لابن الحاجب المتوفى سنة 646هـ وكتاب (الهادي) لإبراهيم الزنجاني المتوفى سنة 658هـ و(الكافي في شرح الهادي) لابنه عبدالوهاب بن إبراهيم الزنجاني ومنظومتا (الكافية الشافية) و(الخلاصة الألفية) وكتاب (تسهيل الفوائد) لابن مالك المتوفى سنة 672هـ وكتاب (نهاية الإعراب في التصريف والإعراب) لأبي حيان الأندلسي المتوفى سنة 745هـ وكتاب (أوضح المسالك إلى ألفية بن مالك) لابن هشام الأنصاري المصري المتوفي سنة 761هـ وشرح (تسهيل الفوائد) لمحمد بن يوسف الحلبي الملقب بناظر الجيش - لأنه ولي نظر الجيش بمصر في عهد المماليك البحرية - المتوفى سنة 778هـ و(التصريح بمضمون التوضيح) لخالد الأزهري المتوفى سنة 905هـ، وكتاب (همع الهوامع شرح جمع الجوامع) لجلال الدين السيوطي المتوفى 911هـ وشرح الأشموني المتوفى 929هـ المسمى (منهج السالك إلى ألفية بن مالك) وحاشية الصبان المتوفى سنة 206هـ على هذا الشرح.

وبتأمل هذه السلسلة من المصنفات يظهر لنا بوضوح أن مصنفيها ساروا في تواليفهم على نهج سيبويه في (كتابه) من حيث الجمع بين النحو والصرف في مؤلف واحد، لكنهم بالتأكيد اختلفوا في ترتيب أبوابها عن منهج سيبوبه في هذا الترتيب.

ويعدّ ابن الحاجب واحداً من أعظم علماء الصرف في طور الاكتمال، كما يعد بن مالك من أواخر الذين بحثوا في موضوعات الصرف بحثاً شيقاً ممتعاً، ولم يجئ بعدهما من أتى بجديد أو ببحوث فيها طرافة، وكل ما فعله المتأخرون عنهما هو تلخيص الكتب المتقدمة أو شرحها والتعليق عليها، لذلك كانت معظم تآليف الصرف بعد القرن السابع شروحاً لمتون منشورة أو منظومة وحواشي لهذه الشروح وتعليقات أو تقريرات على الحواشي، ومع هذا فقد كانت جميعاً غزيرة العلم عميقة النفع، وتميزت المتون خاصة بأنها مكثفة الفكر رمزية العبارة مليئة بالإشارة، لذلك اقتضت شروحاً لها واقتضت الشروح حواش عليها واقتضت الحواشي بدورها مزيداً من التعليقات والتقريرات.

ويبدو أن الإفراط في صناعة المتون والشروح والحواشي (والتعليقات أو التقريرات) في الصرف وفي النحو على حد سواء أدى على امتداد الزمان وخاصة في العهد العثماني إلى أن يملأ فريق كبير من مصنفيها كتبهم هذه بالفروض النظرية وبالتمرينات غير العملية التي بلغت في كثير من الأحيان حدّ الحيل والألغاز مما جعلها عسيرة الفهم عند الدارسين مما حمل كثيراً منهم على الشك في فائدتها ودفعهم إلى اتهامها بالعيب والقصور.

* أستاذ سابق في الجامعة





 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد