Al Jazirah NewsPaper Tuesday  23/12/2008 G Issue 13235
الثلاثاء 25 ذو الحجة 1429   العدد  13235
خطاب التكفير.. والتعامل اللامنهجي مع أحاديث الفتن
عبدالله بن محمد السعوي

الفلسفة التكفيرية لم تر النور, وتدرج في مدارج النمو إلا في مناخات الفتنة والانقسام وخطاب التكفير كخطاب فتنة في الصميم ارتبط في الذهنية العربية بالفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي وقد خطّ بها الخوارج -الذين لازالوا نموذجاً حياً في الذاكرة للفكر اللاوسطي- نهجا لا تزال متتالياته .........

محفورة إلى اليوم في العقل التكفيري المتطرف معززة بشيء من الحداثة والعصرنة. ثمة ترابط عضوي بين التكفير والفتنة فالتكفير الفوضوي كحالة إقصائية وكآلية نفي تؤسس لصياغة قابليات للإرهاب لدى بعض العقول وتستنبت أفكاراً ممعنة في تطرفها تفضي آليا إلى الفتنة التي ليس الانقسام الداخلي وضروب التشرذم والتشظي وتضعضع الكيان المجتمعي وشيوع حالة واسعة من الفوضوية أو الهرج -حسب التعبير الكلاسيكي- وتفكك مركزية السلطة الضابطة لوقائع الحراك الجمعي إلا أحد أبرز تمظهراتها المعبرة عن حقيقتها التدميرية. وكجزء من كمال التشريع وشمولية تناوله فقد أطلق الطرح النبوي الكريم جملة من النداءات التحذيرية تتغيا تلافي الوقوع في أسر الفتن المستقبلية فلم يغادر- عليه الصلاة والسلام- هذه الدنيا إلا وقد جلي للمتماهين مع أطروحته كل فتنة لاحقة قد تحيط بهم وذلك من خلال أحاديث الفتن التي هي عبارة عن رؤى تستشرف المستقبل وتحدو للتحفز في اللحظة التاريخية المنتظرة عبر مدافعة قدر بقدر, والفرار من قدر إلى قدر, عبر اعتماد استراتيجية فعالة للحيلولة دون تموقع المكروه, وللتعاطي الخلاق معه حال تعينه كجزء لا يتجزأ من الواقع. بيد أنه مما لا يجوز خفوت الوعي به هو أن الحجم الكمي لأحاديث الفتن ضئيل المقدار بالنسبة إلى النصوص الأخرى وهذا يعني انه يجب أن يصرف لها من العناية وينفق فيها من الطاقة ما يواكب حجمها بلا إفراط ولا تفريط. نعم يجب أن تأخذ حظها من العناية إذ إن العلم بها ضرورة, وبحسب (السفاريني): (مما ينبغي لكل عالم أن يبث أحاديث الدجال بين الأولاد والنساء والرجال)انظر(لوامع الأنوار البهية) (2/106) بيد أن المفترض هو الاتزان في هذا الأمر وعدم الإغراق في ذلك والاشتغال به عما عداه فالتوسط بين الإفراط والإغفال هو المنحى الذي يقتضي الشرط الموضوعي الصيرورة إلى إملاءاته ومن يتأمل في الخطاب التكفيري ذلك الخطاب الذي يمثل الفتنة بامتياز-لاصطدامه مع الخصوصية الحضارية للمجتمع المسلم ولماله من دور بالغ في تشكيل جيوب مرضية منغلقة آلت إلى تمزيق اللحمة الاجتماعية على نحو يباين المنحى المقاصدي في التآلف والتواد- يجد أنه يتجاوز المشروع في دراسته لأحاديث الفتن فهو يتمحض تماما لتأويلها وقراءة أنماط الواقع ومجريات الراهن على ضوئها بل ويتفانى في التطبيق التجسيدي لتلك النصوص مع أنها- وهذا مبعث العجب- من باب القدر المخبر عنه لا من باب الشرع المأمور به في الواقع الحياتي. فعلى سبيل المثال قام (شكري مصطفى) وهو أحد أبرز زعماء جماعة التكفير والهجرة التي لم يكد ينجو منها أحد إلا مسه شواظ من اتهاماتها قام هذا الزعيم الذي يعتقد في قرارة ذاته أنه هو المهدي المنتظر بصياغة سِفر وسمه ب(التوسمات) ومعنى كلمة التوسمات أي الفراسة في المستقبل ووقوعه فهو يحدس ويخمن أن يقع كذا وكذا في المستقبل انطلاقا من فهمه للنصوص ومضى يقرأ الأوضاع والأحوال العالمية من منطلق النصوص الواردة في الفتن؛وبغرور متناه في منحاه النرجسي والذي بات جزءاً لا يتجزأ من المكون الجوهري العام لهذا الخطاب مضى ملحا في أطروحته على مثلنة جماعته مصورا إياها على أنها الجماعة الوحيدة المنضبطة بالمحددات المنهجية التي وضعها الدين الحنيف وأنه يجب النسج على منوالها حذو القذة بالقذة فيقول: (إذا كنا الجماعة المسلمة وإذا اتفق على أننا الجماعة المسلمة المعنية في آخر الزمان والتي ما إن تظهر حتى تظل ظاهرة غالبة لا يضرها من خالفها حتى يقاتل آخرها الدجال أو حتى تقوم الساعة) ص38.

هذا الكلام يجلي تلك السيكولوجيا المريضة التي تمتلك عمقها الاستراتيجي في بنية الوعي التكفيري وتجلي تلك الملامح التي تميز تلك الفئة عما سواها هذه الملامح أخذت حيزها في الذات التكفيرية وتعمقت في كينونتها وبدأت تمارس سيطرتها من باطن اللاوعي حيث يتخلق النمط السلوكي لهذه الذات -المتورمة بدون محتوى- بوحي منها ولذا فهي لا تعاين إلا أناها وكأن المشهد خال إلا منها ولا يتسع لغيرها ثم يمضي شكري مصطفى سادرا في توهماته العبثية فيقول بعد سياقة لجملة من أحاديث الفتن: (هذه الإشارات بينت أننا سوف ندرك عيسى بن مريم -إن شاء الله- ولكن التحديد الزمني الدقيق لا نعلمه الآن) انظر (التوسمات)54 الدوغمائية الحدية تتحكم في هذا النمط من العقل الذي تتلبسه قناعات متناهية الصرامة بالغة الحدة لا حدود لمداها على نحو حداه إلى القول في كتابه (الخلافة): (إن الولاء لله تعالى ولرسوله لا يتمثل من الناحية العملية بداهة إلا في الدخول في ولائها) يقصد جماعته التكفيرية الخاصة انظر(28/3) وهكذا بهذه الجزمية النافية لاحتمالات النسبية يقطع بأن جماعته هي الممثلة الوحيدة للحقيقة الدينية وما سواها فهو مرتكس في مستنقع الكفر! وأن الانضمام إلى إطار هذه الجماعة والانضواء اللامشروط تحت رايتها شرط أولي في تكامل صوابية البعد الإيماني!

العقل التكفيري اغرق في أحاديث الفتن وأحاديث آخر الزمان بعيداً عن الضوابط المنهجية الشأن الذي آل به إلى المعاينة التقديسية للذات والتبجيل المتنامي لمعطياتها الفكرية فأنزل النصوص في غير مواضعها من غير مراعاة لأبعاد التنزيل الثلاثة:النص المراد إنزاله, والواقعة المنزل عليها, وعملية التنزيل, عدم التصور الذهني الشمولي لهذه الأبعاد, وعدم معاينة الصورة كاملة بكل جزئياتها واستجلائها بوضوح أفقد ذلك الاشتغال التنزيلي مبررات صوابيته, نرى ذلك متجسداً في جماعة (جهيمان) التكفيرية التي أفضى بها الحضور الباذخ للمنحى الدوغمائي إلى التوظيف الرغبوي للنص فاستماتت في إخراج المهدي من بين المنتمين إليها في المسجد الحرام عام 1400هـ واستحلوا في سبيل ذلك محارم الله بالإلحاد في بيته المحرم وإزهاق الأرواح وإسالة شلالات الدماء ومنع المسلمين من الصلاة في الحرم المكي.إن المعضلة التي يعاني منها الخطاب التكفيري هي أنه لا يعي الإسقاط الموضوعي لأحاديث الفتن فهو ينزلها في غير نزلها وهو بهذا المسلك المباين للمنهجية يرتكب جملة محاذير. منها:

أولاً: أنه بإسقاطه للنص على الواقعة على نحو مجاف للصوابية سيصير إلى القيام باجتراح أعمال غير مندوب إليها وفي الآن ذاته إغفال أعمال أخرى مندوب إليها كإفراز حتمي لإسقاط النص في غير محله الشأن الذي سينشأ عنه بالضرورة سلوك فعلي في غير محله والعكس بالعكس.

ثانياً: إنه بذلك يكون عاملاً في اجتراح موبق التكذيب لله ولرسوله إذ إن تنزيل النص على نحو مغاير لحقيقته الموضعية من شأنه أن يحدو بالقوم الذين تضاءل زادهم المعرفي ووضعوا ثقتهم الكاملة والمطلقة فيمن يتعاطى إنزال النصوص على الواقع ومنحوه مصداقية كاملة فإذا أسفرت الحقيقة عن محياها وحصحص الحق وتجلى الخطل قفل أولئك القوم إلى النصوص ذاتها وخالوا أن الخطأ متمخض عنها مع أن الحقيقة أن مسؤولية الخطأ تقع على من وضع النصوص في غير موضعها وربط الأحاديث بأحداث لا تعبر عنها. ثالثاً: الخطاب التكفيري بهذا الصنيع يفتح المجال أمام المتربصين بالنص لمهاجمته إذ إن عملية التنزيل المشوه للنص تحدو بشانئي النص لاستهداف اصل الدين بغية إسقاطه وزرع دوائر من الشكوك حول مدى ما يتمتع به مصداقية والاشتغال على ترويج فكرة أن عدم منطقية عمليات التنزيل النصي دليل قاطع ببطلان هذا الدين. ثمة إسقاط ماكريجري في هذا السياق, ثمة ترحيل للأخطاء وإلصاقها زورا وبهتانا بالدين القويم.

رابعاً: هذا التوظيف المتأسلم الذي نأى بالنص عن منطوقة العام يؤول حتما إلى تعطيل النص عن مقصوده حيث إن النص له قالب معين في المتعين الواقعي هو المراد بهذا النص فإذا جرى إسقاط النص على متعين مباين لم يتغياه الأفق المقاصدي للنص كان في ذلك تعطيلا للنص عن مقصوده وإبطالا للأصل الذي وضع له وترحيلا لمؤدياته وفصلها عن سياقها المعتبر؛ الفساد التنزيلي هنا من جهتين؛ الأولى: من جهة إسقاط الحمولة النصية على متعين واقعي لم يُرد في الأصل, وهنا يبعد النجعة باستدلالات غير مدللة. الثانية: من جهة رفع الدال النصي عن المتعين المتوخى, وهكذا يمارس العقل التكفيري عملية تنزيل نصية عبثية لعدم انضباطها بالشرط المنهجي ويفسر الوقائع في ضوئها ويؤول مجريات الأحداث على وفقها, بل أحياناً لا يتثبت من ثبوت النص فيقرر أحكاما ويتبنى مواقف بناء على نصوص موضوعة فاقدة لشرط ثبوتها, وإذا كان الاستدلال بما لا تُعلم صحته محظور بالاتفاق فإن عدم شرعية الاستدلال بالضعيف أو الموضوع من باب أولى.العقل التكفيري في مجمل تعاطيه مع أحاديث الفتن كثير إما يسقط الأحكام على وقائع لم يتصورها بشكل دقيق أو لا يتحقق من معنى النص ومن المعلوم أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما تقتضي ذلك الشروط المنهجية الصحيحة في الاستدلال والفهم (ولا تقف ما ليس لك به علم) إذ يتعذر الحكم على مجهول الماهية أو الذي يكتنف حقيقته شيء من الضبابية, غير أن هذا العقل يلوي أعناق الدلالات مكرها لها على ما لم تشي به ويعزب عن وعيه أن وعي المعنى المتوخى من لدن الشارع أحد اشتراطات صوابية التنزيل فانضباط التنزيل فرع عن انضباط المعنى والترابط العضوي بينهما قائم على أشده.من يتمعن بعمق في خطابات التكفير يجد أن ثمة ارتباكا يتلبسها إبان معاينتها للوقائع فأحيانا ينطوي النص على محددات يصح أن يشترك فيها مجموعة من الوقائع ولكن النص يروم واقعة بعينها ومن المعروف أن تحديد الواقعة هنا يكون من خلال المحددات المحصورة بها دون غيرها إذ إن دلالة المحددات الخاصة على صوابية العملية التنزيلية ابلغ من دلالة المحددات المشتركة وعلى ضوء توافر لوني المحددات في الواقعة يتم القطع بصوابية فعل التنزيل ويتضح هذا من خلال ذلك المثال الذي ذكره (البرزنجي) في توضيح عدم صحة كون ابن صياد هو المسيح الدجال: (وحاصله أن الأصح أن الدجال غير ابن صياد وإن شاركه ابن صياد في كونه أعور ومن اليهود, وأنه ساكن في يهودية أصبهان إلى غير ذلك وذلك لأن أحاديث ابن صياد كلها محتملة وحديث الجساسة نص, فيقدم) انظر (الإشاعة)293



Abdalla_2015@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد