Al Jazirah NewsPaper Thursday  18/12/2008 G Issue 13230
الخميس 20 ذو الحجة 1429   العدد  13230
مستقبل الثقافة في مصر.. (قراءة مرة أخرى)
تركي بن رشود الشثري

لنقرأ هذا الكتاب مرة أخرى، لنقرأه منزوعاً من سياقه مفصولاً عن مؤلفه ولنقل بالتاريخية وبموت المؤلف، لنمته قرائياً كما مات واقعياً، ننزعه من سياقه لأن ما فيه من توصيات تعليمية وتربوية وثقافية تحقق بعضها في مصر وخارج مصر فلا نتهم بالإرجاف وبافتعال الممنوع، ونفصله عن مؤلفه لأنه طه حسين ولأن الكتاب (مستقبل الثقافة في مصر)، فكما استصحب طه حسين مذهب الشك الديكارتي فقد استصحب الناس الشك في طه حسين ولم يعرفوا من الكتاب إلا أن الرجل أراد تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا وجعل الغاية مبرراً للوسيلة وتناغمنا معه على ذلك عندما أعرضنا عن الكتاب لأجل هذه الوسيلة وزورنا عن الكتاب لأجل هذه الغاية سواءً من قرأ منا الكتاب ومن لم يقرأه وهذا كثير في شرقنا عندما تستقيل العقول وتجاز فترات طويلة تاركة التفكير وإعطاء الأحكام لغيرها من المتطوعين ولا أجد مبرراً لوجود الهيئات الرقابية التابعة للسلطات في شرقنا بما أن هؤلاء المتطوعين قد كفوهم المؤونة وأملوا على الناس ما يقرأون وما يحذرون.

وهنا إضاءات نريد منها الوقوف على دغمائيتنا لعلنا نعيد قراءة أشياء وأشياء فليست الأزمة أزمة كتاب ومؤلف:

1 - يقول في معرض الحديث عن الخصومة بين الدين والعلم في أوروبا (ولعل مصدر هذه الخصومة العنيفة بين الدين والعقل في أوروبا أو بين رجال الدين ورجال العقل، أن رجال الدين المسيحي لهم نظمهم وقوانينهم وسلطانهم القوي الذي كونته لهم العصور المتصلة والظروف المختلفة، فلم يكن لهم بد من أن يذودوا عن هذا السلطان ويحافظوا على ما كان لهم من قوة وبأس.

فأما نحن فقد عصمنا الله من هذا المحظور ووقانا شروره التي شقيت بها أوروبا، فالإسلام لا يعرف الأكليروس ولا يميز طبقة رجال الدين من سائر الطبقات والإسلام ارتفع عن أي يجعل واسطة بين العبد وربه فهذه السيئات التي جنتها أوروبا من دفاع رجال الدين عن سلطانهم لن نجنيها نحن إلا إذا أدخل على الإسلام ما ليس فيه وحملناه ما لا يحتمل) انتهى.

2 - قال عن المعلم في الصفوف الأولية (وكل تعليم مهما يكن فرعه وطبقته لا يستقيم أمره إلا إذا نهض به المعلم الكفء. ولكن الكفاية في المعلم الأولي لها خطر آخر ليس لكفاية غيره من المعلمين فالمعلم الأولي أمين على أبناء الشعب).

ولا يخفى على من خبر التعليم ونقاط الضعف عندما لا يولي التعيلم الأولي أو لا يولي المعلم الأولي الاهتمام المرجو كيف أنه يخرج مسوخاً لا طالباً بل إن الطالب في المرحلة الثانوية لا يستغرب منه إن لم يفرق بين الفعل والاسم وكم أعرب الطالب أحمد ب: فعل ماضٍ مرفوع..!

وإن ظن هذا مبالغة فليناقش أحدنا أي طالب يصادفه عن أي معلوم من العلم بالضرورة وليسمع العجب بل ليطلب منه أن يقرأ القرآن فإني زعيم أنه سيقول ناشدتك الله والرحم ألا سكتَّ.

3 - ذهب في الاهتمام بالمعلم الأولي إلى بعد أعمق من ناحية المهارات والمعارف التي ينشدها في هذا المعلم الأولي حيث إنه لا يريد منه أن يكون ماحياً للأمية فقط فقال: (وليس صحيحاً أن التعليم الأولي في بلد كمصر إنما هو محو الأمية وجعل أبناء الشعب قارئين كاتبين في أقصر وقت ممكن.. فإن هذا النوع من التعليم الذي لاحظ له من نضج، يوشك أن يكون أقرب إلى الشر منه إلى الخير. فإن الصبي الذي يلم بالقراءة والكتابة والحساب ثم يدفع إلى ميادين الحياة العلمية دون أن يمضي في فرع آخر من فروع التعليم، هذا الصبي بين اثنتين: فإما أن تشغله الحياة وصروفها عما تعلم في الكتاب فينساه ويرتد جاهلاً كما كان وإما أن يستبقي علمه بالقراءة والكتابة، وإذا هو يقرأ كل ما يقع إليه في غير تمييز ولا اختيار، وإذا عقله مستعد لأن يتخذ صورة ما يقرأ على اختلافه وتباينه.. إلى قوله وبأن نكون جيلاً من المعلمين الأولين يعرفون أكثر من القراءة والكتابة والحساب، ويقدرون أن يعلموا الصبية أشياء أخرى إلى القراءة والكتابة والحساب). انتهى.

لعل النقل هنا طويل ولكنه ضروري لإيضاح هذه الفكرة العظيمة التي يظنها البعض في متناول اليدين مع أنها خلاف ذلك.

4 - كذلك أورد مسألة بالغة الأهمية ألا وهي ازدحام الطلاب في الفصل فقال: (فإن ازدحام المدارس بالتلاميذ لا يلائم ما نلح فيه أشد الإلحاح على المعلمين والنظار من وجوب العناية بالتلاميذ فرداً فرداً.. إلى قوله فكثرة التلاميذ في الفصل خطر عظيم على صلاح التعليم)، نعم فأين الوقت لتقديم المنهج المقرر ومتابعة الطالب سلوكياً وتربوياً ومهارياً ومعرفياً والوقوف على الفروق الفردية والتقويم ووو...!

5 - وهنا فصل لا يقل أهمية عن ما سبق إن لم يكن الأهم ألا وهي الوثوق في المعلم يقول بعد أن ذكر الرجاء المنتظر من المعلم، (فأول ما يجب عليك لهذا المؤدب أن تثق به وتشعره بتلك الثقة، فإن أنت لم تفعل ذلك وأبيت إلا أن تندس بين المعلم وتلميذه، وأن تشعر المعلم في كل لحظة بأنك من ورائه تقيد أنفاسه وتحصي عليه الصغيرة والكبيرة لأفسدت عليه أمره)، نعم ومن يراقب التعاميم الصادرة من وزارات التعليم بالوطن العربي يعرف معنى هذا الكلام، فلم تعد العملية مشاركة تربوية بل مراقبة يفقد معها المعلم ثقته بمرجعه وبنفسه، فالتربية من أخطر المهام ومهنة المربي حساسة جداً كيف أربي وأنت لا تثق بي أصلاً كيف أربي وأنا محتاح لتربية..! قاسية هذه الحقيقة ومرة.

6 - تتعلق هذه النقطة بالامتحانات الشر الوبيل والخطر المستطيل كيف لا وقد أصبحت الأصل وهي الفرع أنا لا أتصور مهمة للمدرسة إلا العلم والتربية أما أن الجهود والتصعيد لا يكون إلا في أسبوعي الامتحانات حيث تستنفر وزارات التربية وإدارات التربية

يقول طه (الامتحان شر لابد منه، فلنخفف من هذا الشر ونجعله وسيلة لا غاية، ومعنى ذلك أن نلغي امتحان النقل في مدارس التعليم العام إلا أن تقضي به الضرورة والمدرسة وحدها هي التي تقرر هذه الضرورة) وهيهات أن يوكل للمدارس هذه الشؤون العظام..!

ويعني بهذا أن يقيم المعلم طلابه طوال السنة ويجمع لهم الدرجات على ذلك في فترات متباينة فمن استحق الانتقال وإلا فيخضع لامتحان آخر السنة.. وبهذا ترتاح كل تلك الأجهزة لتحشد الطاقات للعلم والتربية وتوضع الامتحانات في خانتها المناسبة وسيلة لا غاية، ومن التقى الطلاب بعد آخر يوم في الامتحانات حيث يتفنون في إتلاف الكتب واسألهم أي سؤال في أي مادة عرف ماذا نعني حيث تنحر المخرجات بسكين الاختبارات.

7 - وهنا قضية لا تقل أهمية عن سابقاتها ألا وهي القراءة الحرة حيث المطلوب والهدف الأسمى من اختلاف الطالب للمدرسة، فمهمة المعلم والمناهج إعطاء المفاتيح للولوج في حرم العلم والانكباب على القراءة الحرة بآليات واضحة مرتبة في ذهن الطالب، وللأسف إن الإعراض عن القراءة كما ذكر ذلك أيضاً طه حسين لا يختص بالطالب وحده بل حتى المعلم لا يقرأ..!

لا أدري كيف يصبح معلماً ولا يقرأ بل يكتفي بترديد هذا المنهج حتى يستحيل كما قال طه عن ترديد المعلمين للمناهج (يرددونها إذا أمسوا وأصبحوا حتى يصبحوا مناهج وبرامج تأكل الطعام وتمشي في الأسواق).

وعبر عن القراءة الحرة بأنها (هذه القراءة الحرة هي نصف التعليم العام) وعلل ذلك بقوله (ذلك أن الإنسان ينتفع بما يقبل عليه عن رغبة وميل أكثر جداً مما ينتفع بما يقبل عليه عن إكراه وقسر).

8 - أيضاً عرض للحديث عن الغاية من التعليم العام بادئاً باستفسار هل الغاية منه تهيئة الطالب للقبول في التعليم العالي..؟

أجاب بأن هذا لا شك فيه ولكنه ليس المقصود لذاته بل المقصود هو كما قال (فالتعليم العام يهيئ الشاب لفهم نوع من التعليم أرقى يهيئه لفهم العلم الخالص والمشاركة فيه والقدرة بعد شيء من الجهد على تنميته والإضافة إليه).

أجل فما أبعد الشقة بين آخر سنة في التعليم العام والمستوى الأول في الجامعة حيث يصطدم الطالب بنظام مغاير أشد ما تكون المغايرة لما كان يألفه في مدرسته.. والحل أن تشارك وزارات التعليم العالي وزارات التعليم العام في الوطن العربي في وضع أهداف التعليم العام فيما يتصل بالمرحلة الثانوية.

بعد هذه الإضاءات ما بالنا نحفل بنظرية بلوم وغيره من أنهم غير مسلمين ولا نستطيع استساغة ما لدى طه حسين وغيره ممن عليهم خطوط حمراء من لاحق وإن أردت الدليل فقد تعلم أبو هريرة من الشيطان أن آية الكرسي حرز ومهرت هذه المعلومة ب(صدقك وهو كذوب) فلنقل للضرورة الفكرية (صدقك وهو طه حسين)..!





@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد