Al Jazirah NewsPaper Friday  12/12/2008 G Issue 13224
الجمعة 14 ذو الحجة 1429   العدد  13224
د. رقية نياز أستاذ الدعوة المشارك لـ(الجزيرة):
الشحنة الإيمانية للحجيج يجب استغلالها في النهوض المجتمعي

(الجزيرة)- خاص

أكدت الدكتورة رقية بنت نصر الله محمد نياز أستاذ الدعوة المشارك بجامعة البنات، على ضرورة استفادة الحجاج من الشحنة الإيمانية، والروحانية، والمعنوية، التي اكتسبوها خلال أيام المناسك في حياتهم الدنيوية، وأن يكونوا الأنموذج الذي يحتذى به، فالحاج عندما يعود من حجه فإنه يرجع كما ولدته أمه، وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فعلى الحاج أن يحافظ على هذه النعمة.

وقالت د. نياز: إن علينا أن نبدأ جميعاً - فرادى ومجموعات - بعد الحج في النهوض بمجتمعاتنا، وأن نمارس دورنا التوعوي والإرشادي، وإبلاغ كلمة الله بالحكمة والموعظة الحسنة. جاء ذلك في حديث للدكتورة رقية بنت نصر الله نياز ل(الجزيرة) وفيما يلي نصه:

* بعد أداء الحجاج الفريضة والعودة إلى ديارهم.. كيف يستفيدون من هذه الجرعة الإيمانية؟

- الحج فريضة كبرى وشعيرة عظيمة جعل الله تعالى فيها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يحصى عده، حتى أنه حينما تحدث القرآن الكريم عن الحكمة من وراء تلك الفريضة الجامعة ذكر إقامة الشعائر والذكر جنباً إلى جنب المنافع.

وقد يتبادر إلى الذهن سؤال مهم عن طبيعة المنافع الدينية والدنيوية التي يمكن أن يستفاد منها في موسم الحج، أهي مقصورة على المنافع التجارية وما تتضمنه من بيع وشراء واستهلاك لسلع ومنتجات.

إن في الحج تتحقق منافع دينية والدنيوية معاً، والمنافع الروحية والأدبية والاجتماعية والاقتصادية، ففي التجمع الكبير الذي يعقد في عرفات، رمز لتوحيد كلمة المسلمين وتوجيههم إلى تدارس المشكلات والأمور التي تواجه شعوبهم. وفي الحج مساواة عملية بين الكبير والصغير والفرد العادي، فلا تمييز، لباس واحد، وحياة واحدة، بل سمو فوق المادة والحسب والنسب والمال والجاه.

* التجمع الإسلامي العالمي في الحج.. كيف نستغل هذا التلاحم في تحقيق الوحدة بين المسلمين؟

- حقاً أن هذا التجمع الإسلامي العالمي لا شبيه له، فحين جاء الأمر الإلهي في هاتين الآيتين بفريضة الحج، مقروناً ببيان حكمة الحج، للفرد والجماعة والأمة، في نطاق العبادة والنفع الذاتي والاجتماعي والسياسي، فكانت منافعه وفوائده خاصة وعامة، لأنه بمثابة مؤتمر عام، يستفيد منه الحجاج فوائد دينية بأداء الفريضة، وتربوية أخلاقية بالممارسة الفعلية للعلاقات الاجتماعية الحساسة والعادية، وسياسية إسلامية، يتداول فيه المسلمون، بنحو جماعي أوضاع بلادهم، وشؤون شعوبهم، بإخلاص وصراحة، وجدية وحرارة، ونقد بناء ومذاكرة في هموم وآمال وآلام الأمة الإسلامية، يعودون بعدها لبلادهم وهم مزودون بما ينبغي فعله على الصعيدين، المحلي الخاص والدولي العام، واضعين نصب أعينهم وحدة الأمة الإسلامية ومصلحتها العليا، وأخوة المؤمنين وما تتطلبه من تضحيات جسام وتعاون وتضامن فعّال، ووقوف بصراحة وجرأة أمام مخططات الأعداء ومؤامراتهم الخبيثة أو المشبوهة، ومحاولة التغلب عليها وإحباطها، حفاظاً على العزة والكرامة الإسلامية، وحماية لوجود المسلمين ورعاية لمصالحهم في الداخل والخارج، سواء في وقت السلم والاستقرار، أو في وقت المحنة والحرب والصراع المسلح، والمجابهة الاقتصادية والتحديات المختلفة.

* كيف يستفيد الحاج من طاقته الإيمانية في تحقيق النهوض؟

- إن الحج فرصة عظيمة كل عام أمام المسلمين للنهوض بالأمة والاستفادة من خيراتها، وذلك باستغلال منافع الحج لتحقيق ذلك، فهذه المنافع ليست جامدة بل متطورة ومتجددة بتجدد الزمان ذاته. وإنني لأحاول أن أبين المنافع الدنيوية والدينية كل على حدة.

أولاً: المنافع الدنيوية:

هي التي تكون سبباً لتقدم الحياة الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية والعادات كلها، فيكون الحج والعمرة مدرسة عملية تدريبية على تحقيق المساواة التامة بين الناس في مظهرهم وحقوقهم وواجباتهم، فلا يتميز غني بغناه، ولا يعرف فقير بفقره، ولا حاكم بعزته وسلطانه، ولا متفوق في أي شيء، بتفوقه وتميزه فكراً وعملاً واختراعاً وتطبيقاً، الكل يضرعون إلى الله، ويتجهون إلى عزته، والطمع بعفوه ومغفرته، والجميع يتساوون في أداء المناسك والشعائر في الوقوف بعرفات، والمشعر الحرام، ورمي الجمار، والطواف حول الكعبة المشرفة، والسعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير.

وبعد أداء المناسك يتذاكر الحجاج الآراء في تبادل خبراتهم ومنتجاتهم وثرواتهم، فينتفع الكل فرداً وجماعة، ويعقدون الصفقات أو يصدرون الوعود، وتتم المكاتبات ومعرفة العناوين لإكمال ما تمت المفاوضة حوله، وفي أثناء تلك المشاعر يتعاطف الناس، ويتعلمون كيفية التخلص من داء الشح والبخل، فتسخو الأيدي، ويكثر العطاء والبذل، ويزداد الانفاق في سبيل الله، وتراق الدماء من الأضاحي والقربات، ويعم الخير الطوعي، ويستفيد الكل من هذا وذاك، وهذا يحقق تضامناً وتكافلاً اجتماعياً وطيد الجذور بين الأسرة الإسلامية الكبرى، ويغتني الفقراء، وتظهر ثمرات نداء سيدنا إبراهيم (عليه السلام) فيما حكاه الله عنه (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).

* الشعور الدافعة بالانتماء للإسلام وللأمة بأسرها، كيف يتحول إلى واقع بعد الحج؟

- طبعاً الحج يقوي الشعور بالانتماء الخالد للأمة الإسلامية والغيرة على مصالحها، والإحساس بواجب المسلم وحقه على أخيه المسلم، وضرورة الإسهام في تفادي المشكلات، وتخطي المحن والأزمات والصعاب، وترسيخ جذور وحدة المسلمين، بالتعارف والتآلف، وتقييم الأحوال والأوضاع، والتخطيط لمستقبل باسم زاهر بعيد عن العثرات والمآسي والآلام، ويشعر الحجاج بقوة الروابط التي تربطهم بإخوانهم في المشارق والمغارب، والتي أنعم الله بها عليهم، فأنشأها الإيمان، وحققها لهم الإسلام، وأحكم نسيجها بروابط الأخوة السامية المخلصة، والمحبة الصادقة، والود في الله ومن أجل الله، والإيثار والتضحية والفداء، والصدق في القول والعمل، والتأثر ببيئة وأحوال الصفا والطهر الذي كان الحج مظلة لها، ومؤثراً في تكوينها، فيسهل اللقاء، وتتجرد النفوس عن الأطماع والمصالح الذاتية، والأهواء والشهوات.

* معاني الحج كيف نجعلها تستمر في حياتنا العادية؟

- في رحلة الحج أخلاق سامية تظهر معاني الصبر والتجمل وتحمل الأذى والمشقة، والتخلص من العادات الذميمة والخصال السيئة، والترفع عن المعاصي والذنوب، وتحلي النفوس بعواطف المحبة وتنمية عوامل الخير وصنع المعروف، مما يجعل هذه الرحلة من أقوم السبل المؤدية الى تهذيب الأنفس وتقويم الطباع، والشعور براحة النفس والأمن، والاطمئنان، وغمرة الفرحة والسعادة بأداء الفريضة، وبذكر الله (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وقد حذر القرآن الكريم من التورط بما يتنافى مع إيجابيات الحج وآدابه المتعددة، فقال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)، ويبشر النبي صلى الله عليه وسلم الحجاج المترفعين عن دنايا الأخلاق، المعتصمين بعفة اللسان وطهارة القلب، يبشرهم بالمغفرة الشاملة، فقال فيما يرويه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي عن أبي هريرة، من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، والرفث كما قال الأزهري، كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة، والفسق، والمعصية، وقد جاء من حديث جابر مرفوعاً، إن بر الحج: إطعام الطعام، وطيب الكلام، وإفشاء السلام.

ويمكن تلخيص منافع الحج الدنيوية: بطهر النفس، ونقاء القلب، وعفة اللسان، وسلامة الجوارح (الأعضاء) من كل ما يشينها ويوقع في الأذى.

* وماذا عن المنافع الدينية لما بعد أداء الفريضة؟

- المنافع الدينية في الحج وجوه التقرب إلى الله تعالى، بما يمثل عبودية الإنسان من قول وفعل، وترك لذائذ الحياة وشواغل العيش، كما جاء في تفسير الميزان، وثمرته واضحة وهي محو الذنوب، وغفران السيئات، وتحقيق المساواة بين العباد، فلا تفاضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، كما في قوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

إن مناسك الحج ترشد إلى معانٍ كثيرة، لا يصح لحاج تخطيها دون تأمل وإدراك، وإمعان النظر فيها، لأن فهم الحكمة الشرعية منها تزيد النفس متعة، وتبعث لأداء التكاليف الشرعية والطاعات الإلهية، وتحقق مغزى الحج على النهج الرباني المقصود به خير الإنسان وإسعاده.

فالإحرام والتجرد من لباس الرجال - ما عدا ستر العورات بملابس الإحرام المعروفة - يقمع شهوات النفس والأهواء ويبعد الناس عن التفكير في الدنيا، ويوجه الإنسان إلى الخالق والتفكير بقدسيته وعظمته وجلاله، ويؤدي إلى سمو الروح، وإظهار الخضوع والتواضع لله تعالى، والبعد عن شوائب الكبرياء والغرور، وعلاج أمراض النفس من حب الاستعلاء ومزامنة الحقد والشحناء، وإخلاص العمل لله جل جلاله، وبغير الإخلاص لله الذي هو جوهر الدين لا قيمة لأي عمل، ولا فضل لأي مسلم في عبادة ومعاملة وخلق وغير ذلك، ومن أهم مقومات الإخلاص التسامح مع المسلمين، وتطهير النفوس من البغضاء والأحقاد والخصومات لهم، سواء المعاصرون أم الغابرون، عملاً بقول الله - تبارك وتعالى - (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).

ودعاء التلبية الذي يردده الحجاج بدءاً من الإحرام حتى صباح يوم العيد برجم جمرة العقبة الكبرى شاهد حي، وواقع ملموس على صدق التوجه إلى الله تعالى، والترفع عن أوضار (أوساخ) الدنيا وشهواتها، والتذكير الدائم بطاعة الله وامتثال وامره واجتناب نواهيه.

والطواف حول البيت الحرام يؤكد وحدة المسلمين العامة، ودليل على التشبه بملائكة الرحمن الحافين حول العرش، وتصعيد الروح نحو العلو الإلهي، وعروج إلى ملكوت الله بالقلب والفكر، وتذكير دائم بصاحب البيت وهو الله جل وعلا، وتجديد العهد مع الله على الإقرار بربوبيته ووحدانيته، بداءً من نقطة الانطلاق في الطواف بالحجر الأسود أو الأسعد، ليكون قرينة أو أمارة على وحدة العمل بين الناس، وطريقاً لانفاذ عهد الله على الحق والعدل والخير والتوحيد والفضيلة، وهذا العهد الإلهي القديم أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ).

والسعي بين الصفا والمروة تردد في معالم الرحمة الإلهية، والتماس للمغفرة والرضا الرباني، وتلمس لأفضال الله وخيراته وطلب عونه لتحمل مشاق الحياة، كما فعلت السيدة هاجر زوج إبراهيم الخليل عليه السلام حين أعوزها الماء، فقامت تسعى ضارعة إلى الله تعالى - لإرواء ظمئها - وسد حاجة ابنها إسماعيل عليه السلام قال الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ).

والوقوف بعرفة في ساحة الرضوان الإلهي، الساحة الواحدة الشاملة لجميع الحجاج، إقبال خالص على الله عز وجل، واتصال روحاني مباشر مع الله واحتماء بسلطان الله، وطلب فضله ورحمته، مؤقناً الحاج بإجابة دعائه.

وأما الرمي أو رجم إبليس في يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة، فهو رمز مادي لمقاومة وساوس الشيطان وأهوائه، والتخلص من نزعات الشر، ومحاربة الفساد والانحراف، فهو كما يقول المناطقة، المحسوس يدل على المعقول، فيكون رمي الجمرات، واستلام الحجر الأسود، والطواف حول الكعبة، تمثيلاً للحقائق بصور المحسوسات ورمزاً لمعانٍ عميقة بصور حركية مادية، تذكر المؤمن بأهدافها وغاياتها، وتحمله على استدامة المقاومة لشرور النفس ونزعاتها.

وكل هذه الشعائر والمناسك ذات المنافع الدينية، تدل دلالة قوية على الثقة بالله، وطلب أفضاله، وتشعر الإنسان في أعماق نفسه بعظمة الله جل جلاله، وحلاوة مناجاته وعبادته، وطلب رضاه وقربه، فيكثر البكاء، ويشتد النحيب، وتصفو النفوس، وتتكاثر حالات التوبة النصوح الخالصة لله والندم على الماضي، هذا فضلاً عن تذكر أهل الإيمان بماضي الإسلام، وجهاد نبي الله وصحبه الكرام في نشر دعوة الله، وتحطيم معاقل الشرك، وهدم معالم الوثنية، وتهاوي الأصنام، وانتصار دعوة الحق والتوحيد. وما أجمل منافع الحج في حديث رواه البيهقي: (الحجاج والعمّار وفد الله، إن سألوا اعطوا، وإن دعوا أجيبوا، وإن أنفقوا أخلف لهم).




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد