الحج من أركان الإسلام الخمسة، قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (97) سورة آل عمران.
فالحج على هذا فرض على كل مسلم بحسب الاستطاعة والقدرة، وفي الصحيحين، بُني الإسلام على خمس: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان) متفق عليه.
ومَنْ تأمل مناسك الحج وشعائره وأعماله وجدها في جملتها تربي في المسلم مكارم الأخلاق وجلائل الخصال، وتعمق فيه نوازع البر والتقوى وتزرع فيه وازع الدين.
حتى إذا رجع الحاج من البلد الحرام وقضى نسه بعد أن عاش أياماً معلومات في أحب البقاع إلى الله في بلد الله الحرام وفي الشهر الحرام وعاين تعظيم المسلمين حرمات الله وتعظيمهم شعائر الله رجع إلى بلده وابتدأ صفحة جديدة وسلك نهجاً قويماً في العبادات والمعاملات والأخلاق، فأصبح إنساناً متميزاً بصدق التعامل وكثرة الخير وبذل المعروف وصفاء القلب.
ومن جلائل الدروس والعظات التي يتضمنها الحج استشعار المسلم بعظم حرمة أخيه المسلم، وأنها حرمة لا تقل حرمة عن البيت الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام.
يقول د. عبدالرب نواب الدين في كتابه الرائع (مائة درس من السيرة النبوية): لقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم المسلمين وتذكيرهم بهذه الحرمة اهتماماً كبيراً، وكان يتحين لذلك المناسبات والأوقات لتكون أبلغ في الفقه والاستيعاب، وأوصل إلى أعماق الضمير، ومن ذلك تذكيره بهذه الحرمة العظيمة إبان حجّة الوداع.
في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال أيّ يوم هذا؟ قال الراوي: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال فأيّ شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بذي الحجة؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه...) متفق عليه.
إن رعاية الذمة ووجود الإحساس بحرمات الله وتعميق هذا الإحساس في النفوس من مقاصد الحجّ. ولهذا نجد الله تبارك وتعالى ينوّه بالتقوى وبتعظيم حرمات الله لا سيما في مواطن الحج ومواقع أداء المناسك من مثل قوله (عز وجل): {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَج عَمِيقٍ (27)لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} الحج (27-30).
في ظلال هذه الآيات يقول د. عبدالرب نواب الدين ذكر الله اجتماع المسلمين من كل الأصقاع، ونوه بما يحصل لهم من منافع دينية ودنيوية في هذا الاجتماع العظيم، وأمر سبحانه بذكره وشكره وإطعام ذوي الحاجة وإتمام المناسك، ثم جعل ذلك كله من حرمات الله التي يجب تعظيمها.
الحجّ فريضة الله تعالى على عباده، وهي فريضة تتضمن من الدروس والعبر ما يتسع لإيراده أسفار طوال، وحسبنا في فضل الحج قوله صلى الله عليه وسلم (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلى الجنة) متفق عليه.
وهذا يوم عرفة، يوم عظيم من أيام الله تبارك وتعالى المباركة المشهودة، له من التوفيق والمغنم وفضله يعمّ الحاج وغيره من المسلمين، فالحاج تكتنفه رحمة الله في هذا اليوم، وغير الحاج: فبصومه والاستباق إلى الطاعات والصالحات. ومن فضل هذا اليوم العظيم أنه يكثر فيه عتقاء الله من النار، كما في حديث (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة..) رواه مسلم في صحيحيه والنسائي وابن ماجة في سننهما.
ولفضيلة هذا اليوم يشرع صومه لغير الحاج إذ صومه يكفر الله تعالى به سنتين، السنة الماضية والباقية، وفي هذا مزيد فضل وإنعام.
وحسب المسلم دلالة على فضل يوم عرفة أنه يوم الحج الأكبر، قال تعالى {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ}سورة التوبة (3).
ومن تيسير الله تعالى على الحجاج أنه يصح حج من وقف بعرفات الله ساعة من نهار اليوم التاسع أو ساعة من ليلة العيد، كما ورد عن رسولنا عليه الصلاة والسلام (من شهد صلاتنا هذه يعني فجر يوم العيد، ووقف معنا حتى يدفع، وقد وقف قبل ليلاً أو نهاراً فقد تمّ حجّه وقضى تفثه) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو داود في سننهم.
فالوقوف بعرفة هو الركن الأعظم من أركان الحجّ الأربعة، التي هي: الإحرام، والطواف والسعي، والوقوف بعرفة.
إنّ رحلة الحج رحلة إيمانية أخلاقية تربوية، كما إنّ للحجّ أثراً في سلوك الحاج، وفي تعامله مع الآخرين واستقامته، بل وفي حياته كلها، من حيث تغيّر حاله وسلوكه إلى الأحسن والتوجه إلى الاستقامة والصلاح.
وقد ذكر علماؤنا أن من علامات قبول الحج تبدُّل حال الحاج إلى الأحسن والأفضل في أمور الديانة خاصة.
وحسب الحاج فضلاً ومنة ما ينتفع به في رحلة الحج الميمونة من الفوز بمرضاة الله تعالى وغفرانه، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (مَنْ حجَ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) متفق عليه.
ولذا، ينبغي أن يكون اهتمام الحاج بعد أن منّ الله عليه بأداء الفريضة بالمحافظة على مكتسبات الحج ومنها الاستقامة والصلاح وكرم الأخلاق وبذل الندى وكف الأذى واستشعار حقوق الأخوة والتعاون على البر والتقوى.
وهنا يرد سؤال مفاده: ماذا يجب أو ينبغي على الحاج فعله بعد أدائه لفريضة الحج؟!
وهذا السؤال عظيم ومهم، يقول علماؤنا إن من علامة قبول العمل الصالح إتباعه بالعمل الصالح ومن ثم، فينبغي على الحاج بعد رجوعه إلى بلده سالماً غانماً أن يلتزم جانب التقوى والبرِّ والإحسان والتعاون والتكافل والاستغفار والتوبة والإنابة والمداومة على الأعمال الصالحة.
فطوبى لمن قُبل حجه، وتبدّل حاله بعد الحجّ إلى أحسن حال، وفاز برضوان الله وخرج من حجه بدروس في الأخلاق وتزكية النفس، وفقه مقاصد هذه الفريضة العظيمة.
هذه معالم تربوية توقد في المسلم جذوة الإيمان، ينبغي أن يتزود منها لغده، ففي يوم الجمعة موعظة ينبغي الإنصات لها، وفي رمضان تربية للجوارح واجتهاد وتبتل، وفي الحج جهد وجهاد واجتماع وتبادل منافع وتشاور.
اللهم اجعل الحج مبروراً، والسعي مشكوراً والتجار رائجة لا تبور يا عزيز يا غفور.
-عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية