عرف الناس عدداً كبيراً من الشعراء في القديم والحديث، وكان لحضورهم الإعلامي دور كبير في شهرتهم ومعرفة الناس بهم.. ثم إن كثيراً من الشعراء وهبوا فنَّهم جهداً كبيراً وأعطوا مواهبهم وقتاً طويلاً فتميز عطاؤهم بالغزارة وطالت قصائدهم وتعددت دواوينهم. |
ولكن شاعرنا لم يُعرف بشعره، ولم يشتهر بقصائده، ولكنه كان يقول الشعر الجميل في الوقت المناسب ولا تزيد قصائده على مقاطع معبرة عن مناسبتها مؤدية لهدفها معبرة عن معاناة ناظمها. |
والقارئ لشعر الشيخ الأستاذ أحمد جمال رحمه الله يجد السمات التي أشرنا إليها ظاهرة واضحة المعالم.. وقد أكد ذلك شعراً ونثراً فديوانه (اليتيم) سماه في طبعته الأولى عام 1366هـ (الطلائع)، ثم طبعه عام 1397هـ وغيَّر اسمه ليكون اسمه: (وداعاً أيها الشعر). وفي السطور التالية نقف مع نماذج من قصائد الشاعر تُعبِّر بصدق عن موقفه من الشعر ونظرته إليه وتطويعه لأهدافه. |
وشاعرنا كان عضو مجلس الشورى، وعمل أستاذاً للثقافة الإسلامية في جامعة الملك عبدالعزيز، وكان عضواً في اتحاد المنظمات الإسلامية العالمية، وعضواً في اللجنة الثقافية برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.. ومن كل ذلك اكتسب ثقافة ومهارة وخاض تجارب في الحياة كان صداها واضحاً في شعره. |
وفي معارضة لقصيدة أبي ماضي يقول أحمد جمال: |
(كن جميلاً تر الوجود جميلا) |
في سكون الدُّجى وفوضى النّهار |
في رجاء الفؤاد -بعد قنوط- |
أو هزيم الجهاد بعد انتصار |
في هجير الشقاء حيث تخاف |
الموت فيه، وعند أمن العثار |
في قتام السماء، أو هيجة الر |
يح سواء وهدأة الأسحار |
في شرود الرقاد، في فزع الأ |
حلام، في روعة الخيال الساري |
كن جميلاً، وكن قوياً تر العيش |
-جميلاً- في ليله والنّهار |
موقف يقين وصدق إيمان ويقظة ضمير تبرزها تلك الأبيات الستة، وحينما قال له الطبيب إنك بحاجة إلى (مخدر) يخفف ألم العلاج كان ردُّه: |
زعم الطبيب بأنها الصهباء |
تشتد أعصابي ويحسم دائي |
فرفضتها -وأنا المريض- ولم أكن |
لأريد بالخمر الحرام دوائي |
آمنت أنّ الله لم يجعل لنا |
فيما نهانا عنه أي شفاء |
آمنت أنّ الله سوف يقيمني |
من علتي فبه عقدت رجائي |
وبحرمة الله التي عظَّمتها |
تشتد أعصابي ويبرأ دائي |
وهذه الأبيات الخمسة واضحة الدلالة على الفكرة التي تعبر عنها: قوة إيمان، وصدق يقين وثبات شخصية. وفي أبيات جميلة يخاطب فيها الجمال والغرام وقلوباً قد هدَّها ذلك الجمال والشوق والحب.. نرى إبداع شاعرنا وشفافيته وسهولة شعره ووضوحه، ولكن تلك السهولة والوضوح مما يعجز عنه أصحاب مواهب شعرية وتجارب فنية عريقة وباختصار هي من السهل الممتنع.. يقول أحمد جمال: |
عجباً للجمال يعلم أخرا |
ه فناء فلا يكون عطوفا! |
عجباً للجمال يوسع من يهوا |
ه صداً وكبرياء عسوفا! |
عجباً للغرام يضطرب القلب |
بنيرانه الحرار اضطرابا! |
عجباً للغرام يطغى على الطرف |
فيوحي لدمعه الانسكابا! |
عجباً للغرام يسبح فيه الفكر |
ظناً وضلة وسرابا! |
عجباً للغرام بعد.. ترى الإ |
نسان منه مجرداً بل يبابا! |
وإلى القلوب يوجه النداء: |
عجباً للقلوب لا تطرد الحب |
وبالحب عيشها لا يطيب |
عجباً للقلوب تكلف بالحسن |
ومنه شقاؤها واللغوب |
عجباً للقلوب تخفق شوقاً |
وحنينا لهاجر لا يثوب |
عجباً للقلوب تغفر للحب |
ذنوباً عن مثلها لا يتوب!!! |
هذه آهات صدق يبثها شاعرنا وهي تدل على شاعرية لا تعرف التكلف واصطناع المواقف والمشاعر، والخيال (المستأجر)، وإنما هي سجية وطبيعة ينطلق فيها الشاعر من ذاته لا من ذوات الآخرين ومن قناعاته لا من إملاءاتهم، ومما يقنع ويريح ضميره وليس مما يريده منه فلان أو فلان.. وهو يرد على من يسخر منه ومن موهبته ومن يعيب شعره ويحتقره فيقول رحمه الله: |
ولم يؤذني أن الشويعر لامني |
وعاب عليّ الشّدو، وهو مقلِّد |
فإن له عذراً لدي لجهله |
بقيمة ما أفضي به وأغرد |
وفي مقطوعة أخرى يردد المعنى نفسه.. فيقول: |
شعرت فعاب البلد شعري وما دروا |
نفاسة ما يشدو به مني الفم |
وهل تعدم الحسناء في الناس رازيا |
على حسنها: كلا فما هي تعدم |
|
فإن شاعرنا قد قال الشعر في وقت مبكر من عمره، فقد بدأ نظم الشعر وعمره ثلاثة عشر عاماً، وبعد عشر سنوات طبع ديوانه (الأول والأخير) كما أسلفنا ولم يقل بعده شعراً.. وكان ميلاده في عام 1343هـ، وتوفي عام1413هـ. |
وشعره الجميل الذي وقفنا عليه ينبئ عن موهبة قوية وشاعرية متميزة، ولكنه وبعد عشر سنوات -فقط- من بدايته في نظم الشعر قرر التوقف عن نظم الشعر ولذلك عدل اسم ديوانه إلى (وداعاً أيها الشعر) وفي ذلك يقول: (وقد سميت الطبعة الأولى من ديواني (الطلائع) لأني كنت أحسب أني سأظل شاعراً. وأقول الشعر في مختلف مجالات الحياة وأحداثها ومسالكها، ولكن الله عز وجل أراد غير ذلك فوجهني إلى أدب الدراسات الإسلامية فكتبت فيها المقالات وألفت الكتب، وألقيت المحاضرات ودرستها لطلاب الجامعات.. وبذلك التوجيد الذي أراده الله لي كانت (الطلائع) خواتيم. وأقول: ولو أن شاعرنا نظم شعراً فيما بعد لوجدنا درراً من الشعر الجميل ونماذج من الأدب الراقي.. ولكن الله غالب على أمره وله الأمر من قبل ومن بعد. |
وأخيراً فإن نادي مكة الثقافي هو الذي نشر ديوان (وداعاً أيها الشعر) برقم 1 من منشوراته عام 1397هـ، فهل نطمع وبعد أكثر من ثلاثين سنة أن يعيد نادي مكة الثقافي الأدبي طباعة ديوان شاعرنا حيث نفدت طبعته السابقة.. أمل كبير أجزم أنه سينال عناية واهتمام رئاسة النادي وفاءً لشاعرنا وتقديماً له للأجيال اللاحقة باعتباره قامة علمية وثقافية وأدبية عالية تعتز بها هذه البلاد زادها الله عزاً ورفعة ورقياً. |
عبدالعزيز صالح العسكر |
عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية |
ص.ب: 190 الدلم: 11992 |
28 من شوال 1429هـ. |
|