يُحكى أن فيلسوفاً يونانياً صرخ بوجه أحد تلاميذه الذي كان مواظباً على حضور الدرس ولكنه كان يلزم الصمت طوال الوقت، دون أن ينطق بشيء قائلاً: أيها التلميذ تكلّم حتى أراك! وكان الفيلسوف يرى التلميذ الصامت ولكنه لم يكن يرى عقله وفكره.
تذكّرت هذه الحكاية وتذكّرت معها الصمت المطبق تجاه قضية الوطنية والتي يجب ويفترض أن تكون حراك الوقت والحين ولسان الإعلام والتي لا يجب أن يخفت بريقها أو تذبل أشعتها وأن تكون قضية الوطنية محور حديث المناقشات والمتابعات حتى لا تصبح باهتة كالماء الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة! إنني أطالب بعدم إغفال هذه القضية من الوجود الإعلامي اليومي وأن نعطيها حقها من دون تأن أو تباطؤ وأن نفرد لها صفحات متخصصة تعنى بها معنى ودوراً مؤثّراً في الحراك الاجتماعي وتنمية الوطن بشكل يشمل كافة الإنجازات الحالية والتاريخية، إن التركيز على دور الوطنية وتأهيل المجتمع وتهيئته وشحنه بثقافة الانتماء الوطني إعلامياً ومدرسياً في البيت وفي الشارع في المؤسسات الحكومية والأهلية في مقار العمل وفي الاستراحات والتجمعات السكانية في الأرياف في القرى في الهجر وفي البادية تعني مزيداً من الحفاظ على هذا الكيان الكبير من الانزلاق في الكثير من المهاوي والتقاطعات الخطيرة، إنه يجب علينا أن نجعل الوطنية نصاً نحمله معنا دائماً نقرؤه ونعلمه لأجيالنا من بعدنا وحليباً تدره أثداء الأمهات يسقى في أفواه الأطفال الصغار شبعاً ورياً ولا نألو جهداً في سبيل تحقيق ذلك الهدف الأسمى والأنقى من أجل التوصل إلى ثقافة وطنية شاملة يعرفها ويتباهى فيها الصغير قبل الكبير حساً وشعوراً وإدراكاً وانتماءً، إنه يجب علينا أن ننمي حس الوطنية وروحها لدى أفراد المجتمع ونغلبها على الانتماءات العرقية والمذهبية والقبلية والعائلية الضيقة، بل يجب علينا أن نعمل على إسقاط نصوص هذه الانتماءات الضعيفة والبؤر الموبوءة ونبني على أنقاضها صرح الوطنية والانتماء الوطني الصرف العملاق، حتى نكون أوفياء للوطن تاريخاً وحاضراً بدون حدود، إنه علينا دائماً القيام باستحضار العمل الجبار للمشروع الوطني في توحيد عجيب وقدرة نادرة قل نظيره ومثيله في الوجود، وعلينا ألا نفرّط في هذا التاريخ وفي هذا الانتماء، وعلينا التحرك تجاه قرص الشمس المشرق دون تخلف وجمود أو انكفاء وانطواء بعقلية منفتحة ومتنورة مع السعي الجدي كيفاً ونوعاً على الانقلاب على الطحالب الفكرية والتنكر لها وإزاحتها بكل أشكالها حتى نكون صادقين مع أنفسنا ومع أجيالنا ومع تربة الأرض التي ولدنا عليها وكبرنا. إن الوطنية مجموعة من القيم والمبادئ الإنسانية والحضارية أرضاً وشعباً وسيادة وخيرات وعلينا الحرص على وحدة هذه المبادئ والقيم دون التفريط فيها أو بمعانيها، إن الهوية الوطنية حتى الإسلام شارك في بلورتها بقيمه الإنسانية ومبادئه الخالدة وأسسه وثوابته الراقية وتراثه الإنساني والحضاري على مرّ العصور، إن على المثقفين والعلماء وأصحاب الفكر وأرباب المعرفة أن يعيدوا للوطنية دورها الحقيقي وموقعها في المجتمع بناءً ومشاركة وعزيمة وتحد وإصرار، وأن لا يضعفوا في بناء هذه الثقافة وتطويرها اجتهاداً وتجديداً في كل آن ومكان، وأن لا يجعلوها تركد لتصبح ماء آسناً غير ذي فائدة.. هكذا أتمنى وهكذا أريد وهكذا أحلم، إن المجتمع بكل فئاته وشرائحه وألوانه وطبقاته يملك الحرص والمرونة والاستعداد لتلقي ثقافة وطنية وهوية انتماء قادرة على زرع روح المثابرة والإخلاص الحقيقي وغير المزيّف كما أنه يبدي حرصاً مدهشاً على وحدة الأرض ولحمة المجتمع فرداً فرداً من دون تمييز بينهم. إنني في الختام أدلي برأيي وبنظرة عامة شاملة مطالباً بتفعيل هذه القضية الوطنية الملحة لأنها واجب عيني وشرعي ووطني يمليه علينا حب الوطن والقيم والتضحيات والجهود التي بذلت والأجيال القادمة التي تأمل أن نورثها ما يعينها على العيش والانتماء الفعلي في وطن يستحق منا الإشادة والتقدير والذود عن حدوده وأمنه وسؤدده وكيانه العظيم.
ranazi@umc.com.sa