إذا كان شاعر الرومانسية يقول:
(والأذن تعشق قبل العين أحيانا).
فإن شاعر الواقعية وهو الأقرب إلى التوصيف يقول:
(وما رائي كمن سمع)..
وفي وطننا الغالي الممتد الكثير مما سمعنا به.. واشتقنا إلى رؤيته..
تراباً. وتاريخاً. وتراثاً. وأهلاً.. ومجتمعاً من خلال مشاهده وشواهده نبصر جانباً من كياننا الجغرافي.. والديمغرافي به تكتمل الصورة. والأبعاد لتلك الصورة سلباً أو إيجاباً..
ولطالما غالبتنا الرغبة إلى رحلة عبر الداخل نكتشف فيها ذلك الوجه الذي يرانا بعتبه. ونراه بقصورنا وتقصيرنا في الوقت الذي فيه تمتد خطانا لاهثة في رحلاتها عبر الخارج وكأن لا شيء لدينا يستحق المشاهدة والرؤية.
في الشمال كما في الجنوب.. وفي الشرق كما في الغرب أوجه حياة وبصمات تاريخ جديرة بأن تُشد الرحال إليها.. واستشراف ماضيها وما يوحي به من جلال وذكريات خالدة تؤطّر صفحة الماضي البعيد. والقريب على حد سواء.
الشمال هذه المرة جاءت الدعوة منه جامعة لمجموعة ممن تأنس برفقتهم لزيارة منطقة الجوف.. ما أدراك ما الجوف بمعالمه التاريخية والأثرية التي يحتفظ بها تاريخنا.. ويحتفي بها تاريخنا المعاصر..
ثلاثة أيام هي عمر الرحلة إلى الداخل (الجوف)، و(سكاكا). و(دومة الجندل) طالما قرأنا عنها.. هذه المرة نشاهدها بأم العين.. و(ما رائي كمن سمع)..
لنبدأ الرحلة.. ونرصد اللحظات.. والخطوات خطوة خطوة..
صبيحة يوم الأربعاء 28-11-1429هـ كان السفر ومساء يوم الجمعة 30 منه كانت العودة.. طائرة خاصة أقلت المدعوين على متنها.. ساعة وربع هي عمر المسافة بين مطاري الملك خالد الدولي ومطار الجوف.. ماذا عن المشاهد؟ عن الجغرافيا والديموغرافيا؟
* منطقة الجوف تشكل من ثلاث محافظات سكاكا ودومة الجندل. والقريات تقع شمال غرب الجزيرة العربية.
* سكانها زهاء ثلاثمائة وثمانين ألف نسمة.. مركزها الإداري مدينة سكاكا ويسكنها مائة واثنان وأربعون ألفاً..
مشاهد اليوم الأول من الرحلة بتاريخ 28-11-1429هـ.
من مطارها الصغير وقد تأخذنا الحافلة إلى النزل المعد للمدعوين جاءت الزيارة الأولى لما يُسمى بمركز أبحاث الإبل والمراعي والنباتات.. الطريق إلى المركز مفروش بالنتوءات والحفر والأتربة والغبار. انتظرنا المختبرات الموعودة وإذا بنا أمام بضع نياق تستحلب ليس إلا..!
المركز تابع لوزارة الزراعة أنشئ عام 1402.. وللأسف كما يقولون تراجع عن مهماته وطموحاته التي أنشئ من أجلها..
علّه يجدد شبابه وتعود إليه الحياة في عهد أميرها الشاب صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن بدر بن عبد العزيز، وقد سعدنا بالسلام عليه والذي تنتظر المنطقة تحقيق آمالها المستقبلية على يديه..
ماذا عن مدينة سكاكا (المركز)؟
تجمع في بنائها المعماري بين القديم والجديد كما هي حال كل مدننا الناشئة.. الفراغات بين مبانيها واسعة.. أجمل ما فيها شوارعها الواسعة الممتدة.. والبعض من ميادينها.. المدينة غنية بآثارها القديمة.. وثرية بتراثها وطيبة أهلها وحفاوتهم البالغة.
من أهم آثارها التاريخية القديمة موقع الرجاجيل الذي يتكون من مجموعة أعمدة مرتبطة ببناء شبه بيضاوي. وأخرى مشيّدة بالحجارة إلى جانب آثار ثقافية وحضارية مهمة تحمل رسوماً منقوشة على الصخر تعود إلى العصر الحجري الحديث والعصر النحاسي. وأخرى للعصر البرونزي والحديدي. هذا عن الماضي.. وعن الحاضر فإن لمسة جمالية بدأت ترسم وجه ملامحها الحديثة.. لعل أهمها:
* مؤسسة عبد الرحمن السديري الخيرية، وما تمخض عنها من أعمال مجتمعية خيرية منها:
1) احتضان الكثير من النشاطات الفكرية والدينية والتراثية.. هذا المنتدى أحد الشواهد الصادقة عليها.
2) جامع الرحمانية بسكاكا الذي يتميز بتطراز معماري جميل يعتمد في تصميمه على قبة مركزية ضخمة. ومئذنتين يستخدم في تبريده نظام تهوية بواسطة أبراج ملاقف الهواء.
3) إنشاء مدارس الرحمانية الخيرية للبنين والبنات تؤهلهم إلى مراتب متقدمة. وتساعد في ابتعاث المتميزين منهم على حسابها.
4) مكتبة عامة قوامها أربعون ألف عنوان.. وقرابة مائة وعشرين مجلداً إلى جانب بعض الإصدارات المتعلقة بالمنطقة.
5) في قاعة محاضرات المبنى في مساء يومنا الأول كانت المحاضرة. الحاضرة بكل أبعادها وتداعياتها وهمومها على اقتصاديات الوطن بعد الهزة العنيفة التي أعادت ما يُسمى بالاقتصاد الحر غير المنضبط إلى الوراء يجرجر أذيال خيبته.. تبارى نخبة مميزة من كفاءاتنا الاقتصادية تعليلاً وتحليلاً لرسم أبعاد مخاطر المستقبل وتداعياته المنتظرة والحلول التي يمكن أن يؤخذ بها للتقليل من مخاطره المنتظرة.. الجميل في الأمر أن لصوت المرأة المثقفة سماعاً في هذا المنتدى الحماسي.. والجميل أيضاً أن واحداً من أبرز كفاءاتنا الاقتصادية الوطنية الدكتور فيصل بن صفوق البشير باعتباره شخصية المنتدى.
عند هذا الحد انتهى نشاط الأول.. وبدأ الثاني:
1) جلستان صباحيتان بينهما فترة التقاط أنفاس.. حول سونامي.. أو الزلزال وتوابعه.. أو الكساد وتداعياته.. مجموعة ثرية بفكرها غنية بصدقها توالت على منصة الخطابة تدلي بدلوها إلى أن جف البئر.. وتوقف صوت الدوالي. وتأخذنا الحركة إلى معرض إصدارات المؤسسة القريبة منا لنبتعد منه قليلاً، حيث النزل الفندق الذي يخدم بدخله العمل الخيري للمؤسسة.. مواصلين الطريق نحو بحيرة دوما.. وما أدراك ما بحيرة دومة الجندل؟!
قد لا يثير فضولك أن تقف على حافة بحيرة تحيط بها الغابات. والمروج الخضراء فذلك شيء طبيعي وعادي تمر عليه مرور الكرام.. غير المألوف أن تقف على بحيرة صحراوية تمتد طولاً ثلاثة كيلومترات وعرضاً قرابة الكيلو ونصف الكيلو وعمقاً ما بين العشرين والأربعين قدماً تحيط بها الصخور الرمادية. أو المرتفعات الجيرية، حيث لا شجر وإنما حجر في كل اتجاه.
هذا ما يسترعي الفضول. والذهول المحبب للنفس المثير للتعجب والإعجاب.. على مقربة منها انفتحت شهية الأكل بدعوة من الصديق الأستاذ أحمد آل الشيخ وكيل إمارة الجوف. ومن البحيرة إلى آثار دومة الجندل الغنية بتراثها.
مشاهد اليوم الأخير
دومة الجندل. أو دومة كما يُطلق عليها تاريخياً تبعد ثلاثين كيلومتراً عن سكاكا.. الطريق صحراوي منبسط تحف به بعض مزارع القمح. والخضراوات والفواكه.. وشيء من القرى الصغيرة. أما المدينة نفسها فأقل حجماً من سكاكا. سكانها في حدود الأربعين ألف نسمة. يوجد بداخلها جامع عمر.. أي العمرين يعني؟ لا أدري.. وإلى جوار المسجد متحف أثري صغير ولكنه منظّم يستغرق في داخله مكونات تاريخ المنطقة وفق تسلسل زمني تاريخي.. إلى جانب أقدم ذكر أرّخ عن العرب في القرن الثامن قبل الميلاد. إضافة إلى مجموعات حجرية وفخارية مختلفة، تمثّل جوانب من حياة أزمنة مختلفة. وأخيراً.. (قصر مارد) الذي أنهكنا صعوداً ونزولاً ونحن نجتاز عتباته الصخرية لوهن أقدامنا نحن الكهول وكدنا نرضى من الغنيمة بالإياب لولا خشية الشماتة. القصر مقام على تلة صخرية عارية يعود في بنائه إلى الفترة النبطية التي أجهل تاريخها.
منطقة دومة الجندل تشتهر بجودة حجارة البناء لصلابتها.. وعبر طريقها الصحراوي وعلى بُعد مائة وعشرين كيلومتراً من دومة الجندل كانت هناك خيمة صحراوية في الانتظار.. الوقت مساء.. النجوم تبرق في السماء.. ومن حولنا داخل الخمية تمر وجمر يتلظى يتطاير شرره. ودقات طبول.. وتمايل رجال بسلاحهم على وقع طبولهم يعرضون. ويستعرضون شيئاً من فولكلور الماضي القريب بما فيه رقصة العرضة النجدية.. والهمهمات الجوفية المرعبة. وتلك وظيفتها.
كرم ما بعده كرم من كرماء اعتدنا عليهم إينما نولي. وأين نذهب.. وبعد أن طاب لنا جميعاً المقام والتهمنا أطايب الطعام تحركت الحافلتان اللتان تغصان بالمدعوين الأعزاء في اتجاه سلة الغذاء.. حيث الماء. والنماء. والانتماء. على بعد قرابة ثلاثمائة كيلومتر من سكاكا كانت محطة رحلتنا الأخيرة في لقاء مع زَرَع. وصنَّع. وأعلن شعاره الوطني عملياً.. (هذا منتج وطني).
البداية مع قلعة زراعية غذائية وصناعية خاصة بعقولها ثرية وبحقولها غنية.. اسمها (المؤسسة الوطنية الزراعية) ماذا عنها؟
* على مساحة ثلاثة آلاف كيلومتر تتحرك. بداخلها وبين أسوارها الخضراء نصف مليون شجرة زيتون. ومثلها أشجار فواكه مختلفة. وخمسمائة ألف رأس غنم. وألفان من الإبل. وألف وسبعمائة شخص بين موظف وعامل.. المشروع الضخم بلغت تكلفته ثمانمائة مليون ريال ودخله السنوي في حدود ثلاثمائة مليون ريال.. المشروع الوطني هيأ للعاملين السكن ولأولادهم الدراسة.. والرعاية الصحية..
للمؤسسة شقيقتان أصغر عمراً.. واحدة في وادي الدواسر.. وأخرى في القصيم.. (تحية للراجحي ولمن يعمل في مشروع الغذاء..
وعلى مسافة غير بعيدة عن المؤسسة الوطنية التي استضافتنا مشكورة وأتاحت لنا فرصة مشاهدة التعليب والتصنيع لبعض منتجاتها توجد (الجوف الزراعية) بمساحة أرضها البالغة خمسة آلاف كيلومتر. والتي تعنى للدرجة الأولى بزراعة القمح والشعير. والفواكه. والبصل. والبطاطس.. والزيتون الذي يمثّل قوام نشاطها والبالغ خمسمائة وخمسين ألف شجرة. رأسمالها ثلاثمائة مليون وعائدها السنوي مائة وثمانون ألف ريال تقريباً. ماذا تبقى من الرحلة..
* كلمة شكر حارة لمؤسسة الأمير (عبد الرحمن السديري الخيرية) في شخص أبنائه البررة الأوفياء لسيرته ومسيرته الأمراء فصيل وزياد وعبد العزيز وسلمان الذين أتاحوا لنا فرصة زيارة كنا نتوق إلى مثلها للتعرّف على منطقة من وطننا الغالي وعلى أهلها.. شكراً للحفاوة البالغة لهم.. ولمن أضاف إلى كرمهم كرماً.. شكراً لمن كان لنا معهم رحلة سفر إلى الداخل عرفناهم فألفناهم وازددنا بهم معرفة وألفة..
وأخيراً.. وبعد أن انفض المولد كما يقول إخوتنا المصريون لا بد من كلمة خالصة مخلصة..
(أن تستثمر مليون ريال في وطنك أجدى وأنفع من أن تستثمر بليون ريال خارج وطنك.. الوطن أولاً.. وثانياً.. وثالثاً إنه الآمن والأمين على مالك. وعلى تحقيق آمالك.. هذه واحدة..
الثانية خرجت من المحاضرين والمتداخلين ذكوراً وإناثاً حول الاقتصاد وما تعرض له من نكبات وهزات أن لدينا خبرات اقتصادية وطنية تملك مفاتيح الحل لتلك الأزمات الطارئة من خلال مفهوم علمي إستراتيجي يمكن الاستعانة به.. بل يحسن الاستعانة به في توجهنا الاقتصادي والأخذ بمشورته..
أما رفاق الدرب الأعزاء.. وقد عادوا إلى قواعدهم سالمين.. العود أحمد.. أو أسعد.. أو كلاهما لا فرق..
الرياض ص. ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338