Al Jazirah NewsPaper Tuesday  02/12/2008 G Issue 13214
الثلاثاء 04 ذو الحجة 1429   العدد  13214

حقاً.. بأعمال الرجال تسمو أقدارهم
عبدالرحمن السليمان

 

لست من أصحاب الأقلام المعروفة، ولا من كتّاب المقالات الصحفية المستمرة، لكني أسجِّل في هذه السطور خواطر صادقة، ومواقف أمينة تجاه رجل عرفته عن بعد بعيد .. وكنت أقرأ منذ سنوات أفكاره المستنيرة في ميدان التربية والتعليم، وإنجازاته فيها.

في مجالسنا ولقاءاتنا نتناول الحديث عن بعض الرجال .. بعض كبار المسؤولين الحاليين والسابقين .. عن بعض الظواهر الاجتماعية والإنسانية في وطننا الحبيب.

وكثيراً ما جاء الحديث عن معالي الدكتور - محمد بن أحمد الرشيد ونحن نتحدث عن التربية والتعليم، وما تنشره الصحف كل يوم الآن عما فيها من أمور، كلها الخير والحمد لله.

أحد الأصدقاء حكى لنا أنه زار معاليه في بيته ذات يوم بعد مغرب السبت، حيث يلتقي به الأصدقاء في لقاء مفتوح .. ولقاء أخوي غير مرسوم، يجتمع عنده أصحابه ومريدوه منذ زمن طويل .. قلت له: لا أحد يعرف ذلك الملتقى، لأنه لا يعلن عنه، فقال: إنه لقاء الأحباب الأوفياء، الذين لهم به صلة حب وود .. لا صلة عمل وقصد .. قلت له: وهل هناك كثيرون يأتون هذا اللقاء السبتي...

قال: حينما كان وزيراً .. كان عدد الحضور على الأصابع .. ولا يزيد على عشرة أو خمسة عشر - والله أعلم بنواياهم وراء حضورهم، أما اليوم - وكما حضرت عنده - في مساء يوم سبت من شهر ذي القعدة فقد ضاق المجلس من اتساعه بالحضور - في تلك الليلة، قلت له من باب حب المعرفة: وهل يتناقشون في التربية والتعليم، وما فيها من قضايا وتغيير، أم يناقشون الحياة عامة..

قال: لا دخل للحضور في أمور محددة .. وليس بين الحديث شيء من الأمور التعليمية أو الإدارية .. إنما هم مجموعة أحباب أوفياء زاد عددهم وتضاعف أضعافاً بعد أن ترك العمل بالوزارة، وكلهم من كبار المسؤولين، ورجال الأعمال، وأساتذة الجامعات، والإعلاميين، وأصحاب الأقلام المشهورة .. والمؤلفين، والأدباء البارزين في حياتنا - يجتمعون في هذه الأمسية .. أكثر ما يكون حديثهم عن الحياة، والناس، والأصدقاء وذكرياتهم معاً.

كثروا .. تضاعفوا .. وكلهم حضور بلا دعوات سابقة، لكنهم مدعوون من أنفسهم بدعوة الحب والوفاء، وإخلاص الصداقة، وبراءة التعارف، واستمرارية العلاقة الأخوية القوية الرباط الخالية المقصد .. وكم أتمنى أن يكثر بين الناس مثل هذا الحب الصافي، والارتباط الروحي الخالص من المقاصد، قلت لصديقي هذا: أعرف أنّ الناس ينفضون عن المسؤولين إذا ما تركوا مناصبهم؛ لانقطاع النفع الشخصي عنهم، أو لانتهاء دوافع النفاق والمجاملة والتزلف لهم.

قال: قلتُ لك يا أخي إنّ الدكتور الرشيد رجل غير كل الرجال الذين تقول ذلك عنهم، وما كل هذا الحشد الذي يأتيه مساء كل سبت من الأصحاب إلا دليل على تميزه بسمات هي جديرة بأن يلتف حولها الناس، ويتمسك بها الأصحاب. فليست هناك دوافع شخصية، ولا مطالب وظيفية، ولا أقوال أو حضور نفعي وراء كل ذلك.

حقاً.. أيها الأصحاب .. بمواقف الرجال تُعرف أقدار الرجال .. وصدقوني أنني لست معلماً، ولا مشرفاً تربوياً .. ولا مدير مدرسة .. ولا وكيل وزارة حتى يقال عني إنني مجامل .. أو مزايد في حديثي عنه.

لكني كنت أسمع الكثير من الأصحاب في ميدان التربية والتعليم يطيبون الثناء عليه - وهو في عمله .. ويزيدون من الذَِّكر الحسن له بعد تركه.

إنني أكتب هذه السطور عن معالي الدكتور محمد بن أحمد الرشيد بعد أن ترك الوزارة.

ومثلي من يكتبون في مثل هذا الموقف هم أبرياء من شبهة النفاق للكبراء ابتغاء استجلاب مصلحة خاصة، أو دفع مفسدة - كما ينجو من اللوم أو العتاب إذا ساق نصيحة لم ترُقْ للمنصوح. وقد دفعتني إلى كتابة هذا المقال المخلص الموجز عدّة أمور، منها:

* أنّ الحديث عن أهل الفضل فيه إشاعة للفضائل في المجتمع، ونشر لها، مما يحدو بالناس أن يتحلوا بها، ويتأسوا بمن يحوزها.

* ومنها أنّ الناس إذا عرفوا مزايا وسجايا من ولي بعض أمورهم فرحوا واستبشروا، ودعوا الله له بحسن الجزاء نظير ما قدم .. واطمأنوا إلى أنّ دنياهم بخير، وحمدوا لولي الأمر حسن اختياره، ورعايته لمصالحهم بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب.

* ومنها أنّ الوزير أو غيره إنسان، له أخطاؤه وعيوبه كسائر الناس، لكن عيوبه وأخطاءه يشترك فيها معه الآخرون. أما مزاياه فلا يشاركه فيه إلا الأقلون.

لقد عرفت من هذا الصديق الصادق في قوله، المخلص، اللاقاصد لشيء في حضوره غير سروره فيما عبّر عنه بقوله:

* أول ما يطالعك في الدكتور الرشيد أنه إنسان بكل ما في الكلمة من معانٍ.

* ينبع سلوكه كلُّه من إنسانيةٍ عميقة الغور، تطبع أكثر تصرفاته، وتصبُغُها بصِبْغَتها، فهو كثير التبسُّم، وفي الحديث الشريف: (تبسُّمك في وجه أخيك صدقة).

* وهو متواضع للناس، يحترمهم (بدون تكلُّف)، مهما كانت منزلتهم الاجتماعية، وقد رأيتُه يخاطب من هو أصغر منه سناً وكأنه يخاطب زميلاً له، ونِداً مُكافئاً، وهذا الاحترام لهم يصاحبه الاهتمام بهم؛ فتراه - على كثرة زواره - حَسَنَ الاحتفاء بهم، يسألهم عن أحوالهم الخاصة وأمورهم العامة.

* والدكتور الرشيد مؤمن بعمله التربوي، مخلص له، يجد فيه المتعة، فهو لا يحمل نفسه على ما تكره، لذا فهي تنشط له فيما يحب حتى بعد تركه للعمل الرسمي لا يزال شغوفاً بالعطاء التربوي والثقافي.

إنه حركةٌ دائبة نشيطةٌ لا تعرف الكلل، ولا تحبُّ إلا المثمر من العمل، وهو أينما حل: عميداً، أو مديراً، أو وزيراً، أو متفرغاً للتفكير، والثقافة، والكتابة حوَّل ما حوله إلى خلية نخل عاملة، بهمة لا تفتر، وعزيمة لا تضجر، حتى صدق فيه قول القائل:

متوقدٌ منه الزمان وربما

كان الزمان بآخرين بليداً

* ونشاطه في مراحل حياته العملية كلّها - أمرٌ عرف عنه، فهو من أول الناس حضوراً لعمله في الصباح، وآخرهم انصرافاً منه في المساء، لذا يتعب ويتعب من معه، ويقول عنه عارفوه: إنه كان إذا سافر في مهمة تضاعفتْ شكوى المرافقين له من مواصلة العمل دون استراحة للأجسام، أما الراحة النفسية فهي متحققة على الدوام، وهذا يذكرنا بقول المتنبي:

وإذا كانت النفوس كباراً

تعبتْ في مُرادها الأجسامُ

* وينسب إلى الأديب الراحل عبد الله نور الذي كان مرافقاً للرشيد في إحدى رحلاته، معلقاً على ما لاقاه معه من تعب وإجهاد: كنت أبحث عن الراحة معك فوجدت التعب والكد في مرافقتك؛ فقال له الدكتور الرشيد مداعباً ملاطفاً، وهو يتندر على نفسه دائماً بالقول: إنّ طبعي هو طبع رعاة الغنم، الذين ينهضون مبكرين ليسوقوا ماشيتهم إلى المرعى، ويقول صديقي: إنه لم يتخلص من ذلك الطبع حتى الآن مع عدم الحاجة إلى البكور. وهذا الرجل الرشيد حقاً في أغلب أحواله .. هاش باش، يغدق الثناء الصادق على من حوله، أو من يلقى من معارفه، وهو لين القول، حار الترحيب، يخاطب الناس بالحب. والمودة، والقلب المنفتح، وقد رأيته محيياً، وسمعته متكلماً بالهاتف، فملك إعجابي ذلك الأسلوب الرائع من الترحيب، والتحية، والسلام، الذي تشعرك حرارته وصدقه بجو الأسرة الحميم، والصداقة الصافية التي ندرت هذه الأيام.

واستطرد صديقي قائلاً:

* ومن صدق إنسانيته، وعلو نفسه، مقابلته الإساءة بالصفح، بل بالإحسان، فإذا أساء أحدٌ إليه بقول في اجتماع عام أو خاص، أو بمقال في صحيفة أو مجلة، يغمز فيه ويلمز، بسوء أدب في بعض الأحيان، لم يغضب لنفسه، وترك الرد عليه، متمثلاً لسان حاله بقول الله عز وجل: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}، أو بقول الشاعر:

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فمضيت ثمة قلت: لا يعنيني!

وبدهي أنّ عفوه هذا هو عفو القادر لا عفو العاجز، فالرد سهل عليه يسير، فهو الرجل الإنسان الذي يغلب حلمه غضبه، ويسبق تجاوزه عمن سبه.. انتقامه..

وفي جانب آخر .. قال هذا الصديق عن هذا الرجل الطيب الكريم: لقد رأيته في بعض الأحيان غضبان منفعلاً، لكنه الغضب الذي يملك معه نفسه، والانفعال الملجم بقوة النفس، وهو أسرع مروراً من سحابة الصيف، إذا طال لم يزد على بضع دقائق، ثم تعود سماؤه صحواً، وربيع روحه نفاحاً بالشذى، نضاحاً بالطيب، ومما عرف عنه هذه الغيرة القوية على دينه ووطنه، ولغته العربية .. وكيف أنه كان غير راضٍ بالسماح للمدارس الأهلية داخل المملكة العربية السعودية أن تدرس بغير اللغة العربية .. وهو يرى مثل غيره أنّ اللغة العربية قادرة على استيعاب كل صنوف المعرفة ومستجدات الحياة.

ولا عذر لأحد في تركها إلى لغة أخرى .. ويعرف الناس مقالاته العديدة منافحاً عن هذه اللغة العبقرية، حاثاً المسؤولين على الرجوع عن قرارهم إعطاء الحق لاختيار لغة التعليم في مدارس التعليم العام .. مصراً على أن تكون العربية هي اللغة الأصل.

* * *

هذا إلماحة عجلى تحدثت بها النفس قبل أن يفيض بها القلم، لم أرد أن أترجم بها للمربي الرشيد، إنما أردت لها أن تكون كلمة شكر صغيرة لرجل كبير، وقد جاء في الحديث: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله).. وكل هذا الذي قلته عنه، وسمعته من صديقي المداوم على حضور مجلس السبت المسائي عنده هو إملاء وجداني، وتعبير قلبي قبل لساني وقلمي، اللهم اشهد أنّ هذه ترجمة لمشاعر صادقة - وآراء شاهدة - .. سوف تبقى حية.

.. وها هو الآن بعد أن ترك الوزارة بسنوات سبقت .. ولست ممن لهم لديه مصلحة يريدها، أو حاجة يمهد لها .. ثقة مني بأنّ أصحاب الفضل يستحقون طيب الذِّكر .. وأهل المروءة تبقى مروءاتهم مدى الدهر.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد