أشير في الحلقة الأولى من هذه القراءة إلى أن العنوان الكامل لهذا الكتاب تلمود العم سام: الأساطير العبرية التي تأسست عليها أمريكا، وأن مؤلفه الأستاذ منير العكش صاحب مجلة جسور، الحائز، عام 1983م، على وسام أوروبا لحوار الحضارات، وتُحدث في تلك الحلقة باختصار عن مقدمة الكتاب وعن الفصلين الأول والثاني من قسمه الأول.
أما الفصل الثالث من ذلك القسم فعنوانه (الثقافة المستباحة..) وقد استهلَّه المؤلف باقتباس من كتابة لباحثة هندية الأصل يشير إلى تزوير الأنجلو-ساكسون، الذين أصبحوا سادة أمريكا لثقافة سكانها الأصليين؛ وهو التزوير الذي يهدف إلى تخلي هؤلاء السكان الأصليين عن ثقافتهم، وتبنيهم ثقافة المحتلين. ومما قالته تلك الباحثة: إن التزوير يهدف إلى اختراق وجدان الهنود وخلقه من جديد لكي يروا أنفسهم بعيون جلاديهم.
وأما الفصل الرابع فعنوانه (بيضة الأفعى). ويتركز الحديث فيه على إيضاح ارتباط الإنجليز المتصهينين بالقضية الصهيونية. وقد بدأه بثلاثة اقتباسات أحدها للحاخام المؤرخ لي ليفنجر، الذي سبقت الإشارة إلى قوله بأن الإنجليز المتصهينين -وهم العمود الفقري للذين احتلوا قارة أمريكا الشمالية - أكثر يهودية من اليهود. وثانيهما من كلام تشرشل، وقد سبقت إليه الإشارة أيضاً. وثالثهما من الموسوعة اليهودية ويقول: (الإنجليز هم الإسرائيليون الذين خاطبهم الله وأراد لهم أن يصنعوا نهاية الزمان بأيديهم). وفي هذا الفصل عرض للدراسات التي تناولت الجذور المسيحية للصهيونية. ومما أشير إليه في هذا الموضوع أن جوزيف ميد، الأستاذ في جامعة كمبردج، أول من نبه إلى أهمية تهويد القدس قبل ظهور المسيح، وأن الحاخام بن إسرائيل استعطف كرومويل (حامي حمى عموم إنجلترا) مذكرا إياه بأن كل النبوءات التي تتحدث عن نهاية الزمان تحققت إلا واحدة غالية على الله آن أوانها؛ وهي (تجميع اليهود في فلسطين من جميع أرجاء الأرض). وكان أن تزعم الإنجليز على طرفي المحيط تلك المهمة. ولعل مما يلفت النظر أن إسحاق نيوتن، صاحب نظرية الجاذبية المشهور، كان من أبرز واضعي النظرية القيامية؛ وذلك في كتابه: ملاحظات عن نبوءات دانيال وقيامة القديس يوحنا، وأنه قد وضع دراسات مفصلة لبناء الهيكل في مكان المسجد الأقصى، وأن أحد تلاميذه جون تولاند، طالب بتأسيس دولة يهودية (يجب أن تكون أقوى دولة في العالم).
ومما ذكر في الفصل المتحدَّث عنه أن هنري جيسي، أحد رجالات بلاط كرومويل ومترجم الكتاب المقدس، قد قال مطمئنا اليهود باسم كرومويل: (الآن أيها اليهود الأحبة أدعو الله أن يجعلني ممن يحترمونكم ويجلونكم باللسان والقلم.. إنني مؤمن مثلكم بكل كتبكم. لهذا أسألكم أيتها الأمة العظيمة أن تثقوا بأن الرب سيتمجد عندما ينقذكم من كل أعدائكم وينتقم لكم، ويبني لكم صهيون ويجعل أورشليم مجد الأراضي. وحتى يحقق الرب أمانيكم ثقوا بأن كل إنجلترا معكم، وقد نذرت نفسها لكي تتحقق أمانيكم).
ويختتم الأستاذ العكش حديثه في هذا الفصل بقوله: إن بلفور - كما ورد في كلام بويكين مؤلف الجذور المسيحية للصهيونية - كان ينظر إلى الصهيونية من منظار قيامي، كما أن الانتداب على فلسطين كان يمضي في هذا السياق حتى أن الجنرال وينجيت، ضابط استخبارات بريطانيا في فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي، أدهش كل اليهود الصهاينة بحماسته للمشروع الصهيوني. وقد أوكلت إليه دولته بناء جيش يهودي قوي في فلسطين يستطيع تحقيق الأهداف الصهيونية فيستبدل شعبا بشعب وثقافة بثقافة. وليس من باب الصدفة أن أبرز تلاميذه موشيه دايان، الذي كان قائد منطقة القدس في حرب 1948م، ووزير الحرب في عدوان 1967م، الذي احتلت به الدولة الصهيونية بقية القدس.
وفي الفصل الخامس من القسم الأول للكتاب تحدث الأستاذ العكش عن ارتباط نظريات بعض علماء الطبيعة والقادة السياسيين من الإنجلو-ساكسون بالذات بالنصوص التوراتية التي تتحدث عن نهاية الزمان. ومن أولئك العلماء وليم وستون الذي حاول البرهنة على التطابق بين العالم الذي خلقه العبرانيون ومبادئ نيوتن. على أن الأستاذ العكش أشار إلى ظهور حركة نقد للغلو في التنظير القيامي العلمي. وذكر من رموز تلك الحركة ديفيد هيوم، الذي قال: إن نصوص العبرانيين المقدسة ليست إلا تجديفا وكذبا فظا. ومن هؤلاء برناردشو، الذي وصف ما يسمى (الرؤيا) لدى القياميين بأنها سجل بذيء لرؤى مدمن على المخدرات. ومع إشارة الأستاذ العكش إلى تلك الحركة النقدية للنظرية القيامية فإنه بين أنها ما زالت قوية، وما زال الذين يتبنونها مؤثرين في الانتخابات الأمريكية. ومن هؤلاء بات روبرتسون وهال ليندسي. ومنهم أحد مستشاري كلينتون، الذي كتب مقالا، سنة 1996م، أكد فيه حق أمريكا في القتل، ووصف سفك دماء الآخرين بأنه عمل ضروري؛ بل نبيل وإنساني.
أما الفصل السادس من القسم الأول في الكتاب فجعل الأستاذ العكش عنوانه: (يعبدون إسرائيل ويكرهون اليهود). وقد بين فيه الاختلاف بين المسيحيين المتصهينين؛ أمثال وليم بلاكستون، الذين يدعون إلى تجميع اليهود في فلسطين بمعونة أمريكا تنفيذا لإرادة الله - بزعمهم - في قيام دولتهم لتكون خاتمة التاريخ والزمان، وبين بعض اليهود الذين يعارضون ذلك ويرون أن يظل اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها. على أن كاتب هذه السطور يرى من الواضح أن الصهاينة من اليهود والمتصهينين من المسيحيين قد نجحوا نجاحا كبيرا فيما سعوا إليه، وأنهم في الوقت الذي حققوا فيه قيام دولة صهيونية قوية في فلسطين تمكنوا، أيضا، من ترسيخ نفوذهم على مجريات الأحداث في كثير من دول العالم؛ وبخاصة الدول الغربية ذات الصولة والجولة.
أما القسم الثاني من الكتاب المتحدث عنه فعنوانه: (إمبراطورية الله). وهذا العنوان مقتبس من عنوان كتاب لوليم ترولنجر عن تاريخ الفكر والثقافة في أمريكا. وقد جعل الأستاذ العكش عنوان الفصل الأول منه: (حدود الإمبراطورية). واستهله بذكر أن الرئيس الأمريكي، وليم مكنلي، ادعى أن الله كلّمه أن يحرر الفلبين، ويضمها إلى أمريكا، وأن السناتور بيفردج، الذي يعجب بكتاباته الرئيس الحالي بوش، قال: (ما جعلنا الله شعبه المختار إلا لنعيد صياغة العالم، وأن آباء الأمة الأمريكية قد أيقنوا أنها ستصبح أقوى جمهورية يعترف العالم بحقها في أن تكون وصيا على مصائر الجنس البشري). وإذا تأمل المرء موقف قادة أمريكا عند عدوانهم على الفلبين المنطلق من إيديولوجية واضحة وقارنه بموقف قادة أمريكا الحاليين عند عدوانهم على العراق تبين له مدى تغلغل الشعور الإيديولوجي في نفوسهم؛ وهو الشعور المشجع على العدوان على الشعوب الأخرى بكل غطرسة واستعلاء.
وعنوان الفصل الثاني من القسم الثاني من الكتاب: (موسى العصر والنزعة القيامية) وقد استهله الأستاذ العكش باقتباس لريتشارد بوبكن قاله عام 1986م، ونصه: (هناك مد من السعادة يغمر هؤلاء القياميين أمام صورة دمار العالم. إنهم يعتقدون أن شرارة هذا الدمار هي الصراع العربي - الإسرائيلي. وهم بسبب هذا الاقتناع يشجعون أكثر السياسات تطرفا وخطرا تستطيع الحكومة الإسرائيلية أن تنتهجها بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية ضد العرب). ثم ذكر الأستاذ العكش أن منطق السناتور بيفردج، الذي أعلن عنه في أوائل القرن العشرين هو منطق الرئيس بوش في أوائل القرن الحادي والعشرين؛ وذلك عندما ادعى أن الله أمره بمهاجمة العراق لتحريرها - بزعمه وزعم خونة أمتنا الذين تعاونوا معه -، وأن اقتناعه بأن العنف هو الوسيلة الوحيدة لإعادة صياغة العالم منسجم مع (فكرة أمريكا) المستمدة من كتاب (الرؤيا) أو القيامة، الذي كان له تأثير كبير على إيديولوجية المستعمرين الإنجليز الأوائل. ولجيفري سيكر دراسة تصور بوش أنه يعد نفسه موسى العصر الذي كلمه الله وأمره أن ينقذ شعبه الأمريكي كما أنقذ موسى شعب الله الإسرائيلي من فرعون، وأنه يرى أن أمريكا هي إسرائيل الجديدة التي أرادها الله أن تكون شعبه المختار، وأن تكون صاحبة رسالة إلى العالم.
أما الفصل الثالث من القسم الثاني فعنوانه: (حق الحرب). ويتركز الحديث فيه حول منح قادة أمريكا أنفسهم حق شن الحرب على الآخرين؛ ابتداء بحرب الإبادة ضد سكان قادة أمريكا الشمالية الأصليين، واستمرارا حتى عهد الرئيس بوش الحالي.
ومما ذكره في هذا الفصل أن حروب أمريكا كلها حروب وقائية استباقية استحدث معظم مبرراتها من حق الحرب المستعار أخلاقيا من (فكرة إسرائيل)، وأنه كان هناك مشروع عدواني سماه مهندسوه: (مشروع من أجل قرن أمريكي جديد) يستمد روحه من الأفكار القيامية في الثقافة الشعبية الأمريكية، ويتمحور حول ثلاثة أهداف:
1- تجميع اليهود في فلسطين.
2- إخضاع العالم العربي والإسلامي.
3- إعادة صياغة العالم باعتبار أن ذلك قدر أمريكا المتجلي.
وكان مهندسو ذلك المشروع قد قدموه إلى الرئيس كلينتون، عام 1998م، لكنه لم يتبنّه. ثم أصبح أولئك المهندسون أركان الإدارة الأمريكية الحالية، وراحوا ينفذون تلك الأهداف وفق ما توافر من ظروف.