يقول وارن بافيت أغنى أغنياء العالم بحسب تصنيف مجلة فوريس: (هناك إنسان ما في مكان ما يجلس الآن في الظل لأن أحدهم بادر بغرس شجرة منذ وقت طويل)، إن مغزى قوله هذا هو أن الفعل الجميل يحتاج إلى وقت لتظهر آثاره، ولذلك يتميز أصحاب الخلق النبيل بديمومة العطاء وليس وقتيته ولحظته فحسب، وهذا القول موجود مثله في أمثالنا ومحكياتنا الموروثة محلياً حيث قيل: (جادة الكرم طويلة).
لا أدري بالضبط لماذا قفز إلى ذهني قول بافيت حين سمعت خبر وفاة أخي الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن العريفي الاستشاري بمستشفى الملك فيصل التخصصي، غير أني كنت دوماً أبدي إعجابي بأريحية أبي كريم - رحمه الله - وبكرمه وبخصوصية الإيثار مع إخوته وأخواته بالذات.
حدثتني أخته عن رقة عاطفته كثيراً ولا سيما في معاملته لوالدته المريضة ثم لوالده المريض حتى توفيا - رحمهما الله - فربما وجدت في تلك العلاقة شيئاً من فيض الذكريات بحكم تشابه ظروفي مع ظرفه هذا، غير أن شيئاً أكبر من ذلك كان يشدني إلى الدكتور عبد الله وهو محبته لإخوته وأخواته إلى درجة التضحية والإيثار لأني عايشت هذا الإيثار عن تجربة ومعايشة.
كان الدكتور عبد الله دمث الخلق عفوي السجايا يخيل إليك عندما يتحدث إليك أنه يفتح قلبه لك لترى ما فيه بدون حجاب، حاضر النكتة والبديهة وفي الوقت ذاته محب لمد يد العون لمن حوله في ما يقتنع أنه لصالحهم ويستحقونه بصراحة متناهية ويتحمل بشجاعة مترتباتها، كما أنه حريص أشد الحرص على الاجتماع والألفة بين من يحيطون به من الأقارب وغيرهم؛ لذا فهو لا يمل من تقديم العروض لتحقيق هذه الألفة بكل الطرق التي تؤدي إليها،
وجعل استراحته طوال العام ملتقى للأهل والأقارب والأصدقاء ومجمعاً للمناسبات السعيدة بدون قيد أو شرط.
عرفته منظم التفكير يحاول دوماً أن يفيض تجربته الشعورية هذه على من حوله بدعوتهم للتفكير المنظم والتحليل المنطقي لكل دواعي الحياة وصروفها.
فقدناك أبا كريم عنوان كرم وسخاء عطاء وملحمة تواصل وصدق وفاء، ومثلك يفقده المقربون منه والمعانقون دوما حلاوة حديثه وطيب سجاياه.
وفي زمن ضعف التواصل الإنساني بين الأقارب قبل الأباعد يتذكر الناس بإعجاب أولئك الذين يغرسون شجرة ذلك التواصل في طريق من حولهم؛ ليستظل بها السائرون في دروب الحياة فتتعمق في نفوسهم المعاني النبيلة لعمق الإخاء وصدق التعاطف وهو ما يحثنا عليه ديننا الحنيف، غير أن مشغلات الحياة تبعد الكثير عن سلوك هذا الطريق الصعب.
يقيناً سيفقد الدكتور عبد الله وبحرقة أولئك الذين استظلوا بالشجرة التي غرسها أبو كريم منذ زمن طويل أعني شجرة التواصل والوفاء، وستصافح خواطرهم ذكراه الطيبة لتبقي حية في نفوس محبيه وعارفي فضله، ولا سيما اخوته وأخواته وأقاربه وزملاؤه وأصدقاؤه ممن كانت له معهم مواقف إخاء ووفاء لا يمكن نسيانه.
وسنفقده نحن الذين عرفنا جانباً مضيئاً نسياننا له سيكون عقوقاً دون ريب ألا وهو بشاشته الدائمة وترحيبه المستمر برغم كثرة مشاغله التي تفرضها طبيعة عمله، ناهيك عن مداعباته اللطيفة التي تنداح إلى الخاطر في كل لحظة من لحظات تذكره وهو يمطرنا بها في مجالسه المعدودة التي جمعتنا ثلاث سنوات شهدت معه خلالها تطبيقات عملية للعلاقة الإنسانية الراقية بكل مدلولاتها الرحبة والصادقة، وبعفوية محببة لا تكاد تراها فضلا عن أن تلمسها وتلامسها إحساساً وواقعاً في كثير من الناس.
مما يذكر فيشكر للدكتور عبد الله - رحمه الله - صدقه مع نفسه محترماً لها، لذا لم تشده إغراءات تخصصه (استشاري غدد) للولوغ في ما ولغ فيه الكثير من استغلال تخصصه مادياً بغض النظر عن الفائدة العلمية والواقعية، وحتى عندما صور له بعض زملائه المكاسب المادية من عمل في هذا المجال لما حققه من سمعة طيبة بفضل الله ثم بفضل إخلاصه في عمله اعتذر بلطف وبأدب مفضلا المكان الذي يفيد ويستفيد علمياً وعملياً فيه فرحمه الله رحمة واسعة وعفاً عنا وعنه.
ومع صدقه مع نفسه فقد عرفته صادقاً مع الآخرين فهو لا ينصحك حتى تستنصحه وإذا استنصحته نصحك بما يمليه عليه ضميره، مبينا لك رؤيته بوضوح وعارضاً عليك الاختيار وفق ما تقتنع به أنت لا هو.
رحمك الله أبا كريم فسنتذكر دوماً مقامك بيننا والجهاز المحمول ثالثنا تشرح من خلاله وتقنع وتمتع، ولا نقول إلا ما يقوله الصابرون لنرضي ربنا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.