Al Jazirah NewsPaper Friday  23/05/2008 G Issue 13021
الجمعة 18 جمادى الأول 1429   العدد  13021

نوازع
جليس السوء
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

 

قرأت في كتاب نفح الطيب قصة يجدر التوقف عندها، لما فيها من عبرة تتعلق بحاسد متملقٍ أراد استغلال حادث حدث في مجلس حاكم فعلي من حكام الأندلس -هو المنصور بن أبي عامر- فأخذ في ذم المحسود والقدح فيه، غير أن المنصور كان فطناً ذكياً جريئاً في رد المتزلفين المستغلين قربهم منه للنيل ممن يحسدونه. والقصة تقول:

إن المنصور بن أبي عامر قال للشاعر المشهور أبي عمر يوسف الرمادي: كيف ترى حالك معي؟ فقال: فوق قدري ودون قدرك، فأطرق المنصور كالغضبان، فانسلّ الرمادي وخرج وقد ندم على ما بدر منه، وجعل يقول: أخطأت ثم راجع نفسه وقال: لا والله ما يفلح مع الملوك مَنْ يعاملهم بالحق، ما كان ضرني لو قلت له: إني بلغت السماء، وتمنطقت بالجوزاء، وأنشدته:

متى يأتِ هذا الموتُ لا يُلفِ حاجةً

لنفسي إلا قد قضيتُ قضاءها

لا حول ولا قوة إلا بالله

ولما خرج كان في المجلس من يَحْسُده على مكانته من المنصور، فوجد فرصة فقال: وصل الله لمولانا الظفر والسعد، إن هذا الصنف صنف زور وهذيان لا يشكرون نعمة، ولا يرعَونَ إلاً ولا ذمة، كلابُ من غلب، وأصحابُ من أخصب، وأعداء من أجدب، وحسبك منهم أن الله جلّ جلاله يقول فيهم: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} والابتعاد منهم أولى من الاقتراب، وقد قيل فيهم: ما ظنك بقوم الصدق يستحسن إلا منهم؟ فرفع المنصور رأسه، وكان مُحباً لأهل الأدب والشعر، وقد اسودَّ وجهه، وظفر فيه الغضب المفرط، ثم قال: ما بالُ أقوام يشيرون في شيء لم يستشاروا فيه، ويسيؤون الأدب بالحكم فيما لا يدرون أيُرضي أم يُسخط؟ وأنت أيها المنبعث للشر دون أن يبعث، قد علمنا غرضك في أهل الأدب والشعر عامة، وحسدك لهم، لأن الناس كما قال القائل:

من رأى الناس له فض

لاً عليهم حسدوه

وعرفنا غرضك في هذا الرجل خاصة، ولسنا إن شاء الله تعالى نبلغ أحداً غرضه في أحد، ولو بلغناكم بلغنا في جانبك، وإنك ضربت في حديد بارد، وأخطأت وجه الصواب، فزدت بذلك احتقاراً وصغاراً، وإني ما أطرقت من خطاب الرمادي إنكاراً عليه، بل رأيتُ كلاماً يجل عن الأقدار الجليلة، وتعجبت من تهدّيه له بسرعة، واستنباطه له على قلة إحساننا إليه وبما لا يستنبطه غيره بالكثير، والله لو حكمته في بيوت الأموال لرأيت أنها لا ترجح ما تكلّم به قلبه ذرة، وإياكم أن يعود أحد منكم إلى الكلام في شخص قبل أن يؤخذ معه فيه، ولا تحكموا علينا في أوليائنا ولو أبصرتم منا التغير عليهم، فإننا لا نتغير عليهم بُغضاً لهم وانحرافاً عنهم، بل تأديباً وإنكاراً، فإنا من نريد إبعاده لم نظهر له التغير، بل ننبذه مرة واحدة، فإن التغير إنما يكون لمن يراد استبقاؤه ولو كنتُ مائل السمع لكل أحد منكم في صاحبه لتفرقتم أيدي سباً، وجونبتُ أنا مجانبة الأجرب، وإني قد أطلعتكم على ما في ضميري فلا تعدلوا عن مرضاتي، فتجنبوا سخطي بما جنيتموه على أنفسكم، ثم أمر أن يُردّ الرمادي وقال له: أعد عليّ كلامك، فارتاع، فقال: الأمر على خلاف ما قدرت، الثواب أولى بكلامك من العقاب، فسكن لتأنيسه، وأعاد ما تكلم به، فقال المنصور: بلغنا أن النعمان بن المنذر حشا فم النابغة بالدر لكلام استحسنه منه وقد أمرنا لك بما لا يقصر عن ذلك، ما هو أنوه وأحسن عائدة، وكتب له بمال وخلع وموضع يتعيش منه، ثم ردّ رأسه إلى المتكلم في شأن الرمادي، وقد كان يغوص في الأرض لو وجد، لشدة ما حلّ به مما رأى وسمع. وأقول: أليس منا كبر منزلة أو صغر من قد حلّ محل الرمادي المحسود، أو المنصور الحكيم، وذلك الحاسد للئيم حمانا الله كيد الحساد، وألهمنا الصواب، وكفانا شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وجعلنا بالحق ناطقين، وفي الخير ساعين. ولله در القائل:

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً

عنه وما سمعوا من صالح دفنوا

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6227 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد