«الجزيرة »- سعود الشيباني
على مدى خمسة وخمسين عاماً ظل صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض يستقبل المواطنين والمقيمين في مجلسه بالإمارة بروح الرجل المسؤول والأب الحنون والإنسان الرقيق الذي يتلمس احتياجات الناس ويعمل على حلها وفق ما هو متاح وفي إطار النظام وبما يرضي الله سبحانه وتعالى.
فالأمراء يريدون السلام على سموه وزيارته ويفضلون حضور مجلسه العامر والزاخر بالحكمة والخبرة والرأي السديد، والكثير من المواطنين والمقيمين يأتون إلى مجلسه وعليهم أثقال من الهموم والمشاكل ويخرجون من عند سموه والفرحة تعلو وجوههم والابتسامة ترتسم على شفاههم.
المجلس يحاكي التقليد الإسلامي المعروف وما يسمى عصرياً بسياسة (الباب المفتوح)، والمجلس ينسجم مع أسلوب الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - في استقبال المواطنين وتلمُّس مشكلاتهم والسعي لحلها دون تمييز بين كبير وصغير.
السنوات تتعاقب والأيام تدور وهذا العرف الطيب شهدت عليه عقود من الزمان.. فالمكان هو المكان.. والأمير سلمان هو ابن الرياض.. محبها وعاشقها وباني نهضتها الحديثة، وأسلوبه في استقبال الناس وسرعة البت في قضاياهم ظل كما هو لم يتغير أبداً.. تحرسه ذاكرة فذة وحضور ذهني وقّاد وتدقيق في (المعاريض) وتفحص في الوجوه وربط بين الأحداث وأصحابها.
مجلس الأمير سلمان بن عبدالعزيز ينعقد بالإمارة يومياً بعد صلاة الظهر ويمتد ما بين ساعة ونصف إلى ساعتين. القاعة هادئة وأنيقة، يرتاح المرء بدخولها للمرة الأولى، يشعر فيها بالأمان والطمأنينة والعدل والإنصاف، تجمع في شكلها وتصميمها بين الأصالة والمعاصرة، بها صورة الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - وصورة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والى جوارها صورة ولى العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز.
القاعة قريبة من المسجد، وبعد خروج سموه من المسجد بعد أداء صلاة الظهر يتوجه إليها لاستقبال الناس، ومن يريدون مقابلة سموه عادة يحرصون على أداء الصلاة معه بالمسجد حتى يكونوا على مقربة من سموه في مكان الاستقبال.
استأذنت صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض في إعداد تحقيق صحفي عما يدور في مجلس سموه بالإمارة مع المواطنين والمقيمين، ووافق - حفظه الله -، وخلال خمسة أيام وبمعدل ساعتين يومياً من تواجدي بالمجلس رصدت قدوم (879) شخصاً من جنسيات عدة، وكل منهم له مطلب مختلف عن الآخر، دون الوفود الرسمية أو من يقابل سموه في أماكن غير المجلس بإمارة الرياض أو مجلسه الخاص بالقصر أو مكتب سموه بالإمارة.
من تقاليد المجلس
عند حضور المواطنين والمقيمين إلى مجلس الإمارة بعد صلاة الظهر مباشرة تقدم (القهوة) للجميع دون استثناء، وهي القهوة العربية السعودية المعروفة، وتقدم بالطريقة التقليدية المألوفة؛ إذ يقوم بذلك عدد ممن يحملون (الدلات) ويطوفون على الناس بذات الأسلوب الذي يتم به تقديم القهوة للضيوف في المناسبات التقليدية .
يقف الحراس وهم (30) شخصاً ومعهم (الخويا)، وهم أيضا (30)، في صفين متوازيين، وبينهما يمر الناس للسلام على صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض.
يطلب ممن لديهم شكاوى أو معاريض تقديمها مكتوبة وفي مظاريف أو ملفات تفادياً للشرح الشفهي الذي لا يخلو من الإسهاب والتطويل حتى لا يهدر الزمن الغالي لسموه مقابل أشخاص محدودين.
عادة ينظر سموه الكريم إلى الموضوع ويستشف فحواه خلال ثوان معدودة ويوجه بسرعة البت فيه فيتولاه أحد المرافقين (الخويا)، ويذهب به إلى الشخص المعني بالأمر ويسير الأمر بسرعة، وتتم متابعته حتى ينجز.
هناك من القضايا والمعاريض التي يرد عليها شفاهة وبهمس لا يكاد يسمعه شخص ثالث، فيخرج المواطن أو المقيم من عنده وهو مسرور أو مقتنع على الأقل وبأسلوب حكيم يدرس من خلاله نفسية مَنْ يقف أمامه ويعطيه من الحلول ما يرضيه، وإن كان ذلك ليس الحل الطموح الذي كان يأمل فيه؛ لأن الأمير سلمان - حفظه الله - كما هو معروف عنه يحاول ويسعى للحل الذي ليس فيه تجاوز ولا إعطاء شخص أكثر مما يستحق بل يميل إلى الإنصاف وإحقاق الحق وإرساء العدل، ولديه قدرة على استيعاب ما يحمله الخطاب أو الشكوى بطريقة المسح السريع، وهذا يساعده على إنجاز أكبر عدد من المقابلات خلال أقل من ساعتين.
مراسم معروفة
ليس كل من أتى مجلس الأمير سلمان بن عبدالعزيز بالإمارة هو بالضرورة لديه مسألة أو شكوى، بل هناك من يأتون للسلام على سموه والاستفادة من حضور مجلسه وما يصدر فيه من حِكَم وطرائف ومواقف تسر الحاضرين وتستوقفهم.
فالأمراء والمواطنون والمقيمون وغيرهم يجلسون على صعيد واحد بعد أن يقفوا صفاً بين صفي (أمن الإمارة) و(الخويا) ويمرون بالسلام على سمو الأمير سلمان. البعض منهم ينسى في غمرة السعادة وهو يسلم على سموه الكريم أن يسلم شكواه أو مظلمته ويجلس مع الآخرين ومعه معروضه بعد ذلك يمر (الخويا) ويسألون الحاضرين: هل من أحد لم يسلم معروضه..؟! فيتذكر البعض ويقومون بعد ذلك بتسليمه.
زي موحد للخويا
(الخويا) في مجلس أمير منطقة الرياض يكونون بزي موحد وبشكل مميز؛ حيث يلبسون الثوب والشماغ والبشت والسيف، ويكونون بارزين بين بقية الحضور ومعروفين من خلال هيئتهم، ويتسمون بالأناقة والتنسيق والتنظيم.
فالحركة تتم بشكل تلقائي منظم وبهدوء شديد، وقد تعارف الناس أن يتركوا هواتفهم النقالة على وضع (صامت)؛ حتى لا تؤذي النغمات المختلفة الحاضرين وتشوش على المجلس.. فالناس يتبعون ذلك ويلتزمونه.
كما أن المجلس يتسم بالهدوء والإنصات كأن ما يقوله أو يأمر به الأمير سلمان يخص الجميع على الرغم من حرصه في بعض الحالات ألا يتعدى صوته مسمع صاحب المعروض.
حس وموهبة
من الأشياء اللافتة للنظر ربما لمن يكون جديداً على مجلس الأمير سلمان تمتع سموه بحس عال لفَهْم ما يود أن يقوله صاحب المعروض.
فترى سموه يمازح من يستقبلهم في مجلسه أحياناً كثيرة، ويتحدث معهم في قضايا تخصهم لا يتضمنها المعروض إمعاناً في درايته بشؤون وأوضاع الكثير من الأسر والقبائل والعشائر، ويبادرهم بمعرفة أنسابهم وعائلاتهم وأفخاذ قبائلهم، ويتحدث إلى البعض منهم ذاكراً نوادر أجدادهم وتاريخهم، كما أنه - حفظه الله - وهبه الله ذاكرة فريدة؛ إذ يستذكر مواقف مرت عليها عقود حدثت مع بعضهم أو بعض ذويهم في مجلسه فيربط بين الأسماء الحاضرة وتلك الأسماء الغائبة.. بل العالقة فقط في الذاكرة، وأحياناً يلمح الشبه في بعضهم فيسألهم عن فلان ابن فلان فيتضح أنه من العائلة نفسها.
مجلس سموه زاخر بمختلف الأجناس ومختلف شرائح المجتمع، فيه الصغير والشاب والكهل وغيرهم، وفيه كرم الضيافة الذي يقوم عليه عشرات الخويا الذين يحملون (الدلة) ويتنقلون بها بين ضيوف الأمير سلمان بن عبدالعزيز في مشهد تجتمع فيه دلالات عديدة من الأصالة والمعاصرة واحترام الإنسان والتعب من أجل بحث شؤون المواطنين والمقيمين.
أكثر من خمسة وخمسين عاماً والأمير سلمان يحضر إلى مكتبه عند السابعة والنصف صباحاً ويؤدي مهامه اليومية، ومن ضمنها استقبال الوفود الرسمية والمواطنين والمقيمين دون كلل أو ملل، ودون أن يلحظ على تعابير وجه سموه نوعاً من الضيق أو الشعور بالإرهاق والتعب من جراء ما يقوم به من عمل يومي صار جزءاً من جدول أعماله اليومية، وقد اعتاد سموه أن يغادر مكتبه بعد الساعة الثالثة والنصف عصراً، وأحياناً عند الرابعة حينما يكون هناك عمل لا بد من إنجازه في اليوم نفسه.
هذا غير مجلس سموه الذي يستقبل فيه الجمهور أسبوعياً في قصره مساء يوم الاثنين من كل أسبوع، والذي أيضاً يقصده كثير من كبار الشخصيات والمواطنين والمقيمين.
مجلس الأمير سلمان بالإمارة يسير على نظام ديناميكي منذ عشرات السنين، الكل فيه يشكل جزءاً من منظومة ثقافية عريقة.. لها إيقاعها الخاص.. النظام والهدوء وانسيابية الأمور.. سمات بارزة وغالبة على المجلس.
أما صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز الذي تتركز حوله الأنظار ويلوذ به كل من جاء إلى المجلس ولديه حاجة فإنما تتجه إليه الأنظار لما يبدر منه من أقوال وتعليقات كثيراً ما تأخذ طابع الطرافة والحكمة وذاكرة شابة وتقييم صادق ومعبر للأوضاع وفراسة يقرأ من خلالها الكثير مما لم يكتب في المعاريض وتنم عنه وجوه محدثيه.
دروس وحِكم وقصص
من مجلس أمير الرياض
ومجلس الأمير سلمان بن عبدالعزيز بالإمارة لاستقبال المواطنين والمقيمين زاخر بالعديد من القصص والمشاهد الحكيمة والإنسانية الرائعة التي تدل على مدى الذكاء والفطنة والموهبة التي يتمتع بها سموه.. وقد حضرتُ جلسات أسبوع كامل متواصلة غير الزيارات التي قمتُ بها من حين إلى آخر، والتي تضيف المزيد من الانطباعات الجيدة التي رأيت أن يستفيد منها غيري من الناس من خلال نشرها.
القصص كثيرة.. والمواقف متعددة.. والمشاهدات تستحق التسجيل.. وما يحضرني منها سأسرده عبر الأسطر التالية:
* قدم إلى مجلس سموه وفد من سبعة أشخاص ظناً منهم كما يعتقد الكثيرون أن كثرة العدد لها تأثير في مجريات الأحداث، وأنها يمكن أن تغير الموازين. وكانت لديهم شكوى من تعدي الغير على أرض لهم، فكان سمو الأمير سلمان صريحاً معهم وواضحاً كل الوضوح، وقال لهم: ليست هناك ضرورة إلى هذا العدد.. وكثرتكم هذه لن تغير من الأمر شيئاً.. معروضكم واضح والشكوى واضحة بكل حذافيرها. ووجّه سموه بإنهاء الموضوع على وجه السرعة، ووجّه بإرسال لجنة من الجهات ذات العلاقة للوقوف على الوضع في المحافظة، ويتم إيقاف الشخص المتعدي عند حده. وبذلك أوصل رسالة لكل الحاضرين ومن يسمع ويقرأ أن كثرة الوفود في الشكاوى المكتوبة لا يفيد ولا يغير من الأمر شيئاً.
بدون توقيع
* من الطرائف التي شهدها مجلس الأمير سلمان رغم جدية الموقف أن أحد المواطنين قدم معروضاً وليس عليه توقيع، وجرت العادة أن كل شخص يوقع على المعروض ليأخذ صفة الرسمية، فنظر سمو الأمير سلمان إلى المعروض ولم ير توقيع صاحبه، فالتوقيع من الأساسيات في مثل هذه الحالات، فأشار إليه بأن معروضه بلا توقيع.. فقال المواطن (سم طال عمرك أوقع الآن)، ولكن ليس معي قلم.. فأعطاه الأمير سلمان قلمه الشخصي فوقع به وأعاده إلى سموه والابتسامة تعلو شفاه الحاضرين من طرافة الموقف.. وتواضع الأمير وصراحة الرجل؛ لأنه يعرف طريقة تعامل الأمير سلمان وتلطفه مع ضيوف مجلسه.
* قدم إلى مجلس سموه بالإمارة ونحن حضور عنده رجل من أهل مكة، وكان له مطلب بالرياض، وجاء من مكة المكرمة إلى مجلس سموه شارحاً قضيته.. فنظر فيها أمير الرياض - كعادته - بنظرة فاحصة ألمت بكل جوانب الموضوع.. ولم يفت على فطنة سموه أن هذا الرجل قادم من مكة فوجه بسرعة إتمام إجراءاته في نفس اليوم مراعاة لظروفه؛ حتى يتمكن من السفر دون تأخير.. فقضي أمره وأنهيت مسألته.. ووجد كل الاهتمام والتقدير وعاد إلى مكة مرتاح البال. الحكمة هنا أن سمو الأمير سلمان قدر معاناة الرجل وسفره من مكة إلى الرياض فأولاه العناية الخاصة.
فطنة وفراسة
الفطنة والفراسة من الصفات الأساسية عند العرب، وهما ليستا غريبتين على سمو الأمير سلمان طالما أنه نهل من معين صقر الجزيرة الملك عبدالعزيز (طيب الله ثراه). ومن المواقف التي تدل على ذلك: حضر مجلس سموه رجل قدم له معروضاً، وقبل أن يشرح الرجل تفاصيل القضية سأله الأمير سلمان قائلاً: أنت جدك فلان ابن فلان؟! فقال الرجل: نعم. قال له الأمير سلمان: رحم الله جدك وأنعم على أبيك. وكان كبيراً في السن، ولكن فراسة المؤمن جعلت أمير الرياض يلمح في وجهه دم الآباء والأجداد، فاستوقفه الأمر واستفسر ليطمئن على ذلك، وبالفعل كان هو الرجل بعينه. فاحتار الحاضرون وأعجبوا لقوة الملاحظة وتركيز سموه رغم المسؤوليات الجسام والمهام العظيمة التي يضطلع بها وكثرة القادمين إلى مجلسه فضلاً عن قيامه بعمله اليومي بقصر الحكم وفي الأجهزة التي يتولى رئاستها.
* وقضية اهتمامه بالشخص القادم من خارج المنطقة لم تكن قاصرة على المواطنين وحدهم بل أيضا هكذا كانت نظرته للمقيمين؛ حيث قدم إلى مجلس سموه مقيم فلسطيني أتى من المنطقة الشرقية لمتابعة قضية لأحد أقاربه في الرياض، فقال له الأمير سلمان: لماذا أتيت إلى الرياض وأتعبت نفسك.. فكان يكفي أن ترسل المعروض بأي وسيلة أو حتى ترسل برقية وينهى موضوعك وأنت في مكانك. فأمر بالتعجيل له بحل مشكلته وإنهاء موضوعه على وجه السرعة ليتمكن من العودة إلى المنطقة الشرقية. وكانت نظرة سموه أن من يتكبد المشاق ويأتي إلى الرياض يجب أن ينهى موضوعه بسرعة فيكفيه تعب السفر، فيجب ألا يتحمل الانتظار والتأخير وإن كان سموه يرفض من حيث المبدأ سفر المواطنين أو المقيمين من أجل تقديم معروض أو شكوى، ويرى أنه يكفي إرسال برقية أو إرسال المعروض بأي وسيلة، وينجز بإذن الله.
رسالة مازحة
كثيراً ما يوصل الأمير سلمان الرسالة التي يود إيصالها لمن يريد عبر طرفة أو مزحة أو حِكمة ذات دلالات عميقة.. فجاءه رجل يطلب استخراج رخصة قيادة لابنه (دون 18 سنة)، فقال له الأمير سلمان: لكن ابنك لم يبلغ السن القانونية. قال الرجل: أنا أعرف ذلك؛ ولهذا جئتك وأنا أريده أن يقود الآن قبل بلوغ الثامنة عشرة. فقال الأمير سلمان: أتريدني أن أتجاوز القانون؟! قال الرجل: نعم تجاوز النظام ووجه لي بنيل الرخصة لابني. هنا تبسم صاحب السمو الملكي الأمير سلمان وقال بروح الدعابة: نحن مطلوب منا حماية النظام والقانون وتنفيذ الأنظمة فكيف نتجاوزها؟ وبروح عالية وبأسلوب مازح أفهم سموه الرجل أن هذا المنطق يجب ألا يصدر منه أبداً، ورد له معروضه، فعرف الرجل أنه أخطأ وأخذ أوراقه مودعاً سموه.
حكمة وسعة صدر
* ومن المواقف الدالة على حكمة سموه أيضاً: جاءه أحد المواطنين وجلس وسط الحضور وأخذ يتكلم بصوت عال معتذراً عما بدر من أخطاء يعلمها الأمير، ويقول أنا فعلت كذا وكذا.. فقال له الأمير: لا ترفع صوتك فالناس لا يعلمون بقضيتك فلا تفضح نفسك.. فأنت اعترفت بشيء أمام الناس وهم لا يدرون عنه. فكُفّ عن الحديث وأُجلس، وكانت لفتة من سموه فيها الكثير من الحكمة والحرص على سمعة الرجل وستره في قضيته وهو يعترف أمام الناس، ثم وجه سموه بسرعة حلها.
* كنا جلوساً في مجلس سموه فجاءه أحد المواطنين وقدم معروضا، ويبدو أن الظلم كان واضحا ربما من خلال المعلومات المتوافرة لسموه عن الموضوع أو من البيانات الواضحة في القضية، فوجّه سموه بإحضار الخصم فوراً في نفس اليوم لحل الخلاف، وإذا لم يوافق على الحل يودع السجن حتى ترد مظلمة الشاكي. فهذه القضية أيضاً تنم عن إلمامه بأبعاد الكثير من القضايا، وتدل على حزمه وعدله وحكمه تجاه الأمور التي تحتاج حسماً عاجلاً.
* من الطرائف والمواقف المحرجة التي تعامل معها الأمير سلمان بحكمته المعهودة أنه جاءه أحد المواطنين طالباً منه أن يقضي له بعد أن أصدرت محكمة التمييز حكمها في القضية، فقال له سمو الأمير سلمان بهدوء شديد: قضيتك أيدتها محكمة التمييز.. فماذا تريد بعد ذلك وليس من حقي أن أتدخل في أمر أصدر القضاء حكماً فيه. وكرر له القول أن الحكم صادر من محكمة مميزة وليس بعد ذلك مراجعة. ورغم أنه غضب من طلب الرجل لكن الحلم والهدوء كانا سيدَي الموقف، ولم ينفعل بل كان موفقاً يتسم بالحكمة والصرامة في الوقت ذاته.
* الأمير سلمان دائماً يذكّر من يقدمون إلى مجلسه خصوصاً أصحاب المعاريض أن يكتبوا شكواهم ولا يشرحوا له شفاهة؛ وذلك حفاظاً على الوقت وعلى الأسرار في كثير من الأحيان، ويفضل أن يكون المعروض مختصراً مفيداً، ولكن رغم ذلك تحدث بعض المواقف ممن ليس لهم دراية بهذا النظام؛ حيث جاءت سموه مجموعة من المواطنين لديهم مطالب، فصار كل واحد يتكلم من جهة، فقال لهم سموه: كيف أسمعكم في لحظة واحدة وأنتم تتكلمون سوياً.. دعوا أحدكم يتكلم نيابة عنكم، بل المفروض ألا يتحدث أي واحد منكم لأن مطالبكم موجودة في المعروض، وغيركم ينتظر دوره. فما كان منهم إلا أن صمتوا وانتظروا توجيه سموه، وبعد أن اطلع على المعروض وجه بإجراء اللازم.
تقاليد بائدة
* مجلس سموه زاخر وعامر بالحِكم والعبر؛ حيث يحرص كما عرف عنه على إحقاق الحق ولا تأخذه في ذلك لومة لائم.
* عرضت على سموه قضية تتعلق بالزواج والحجر؛ حيث تقدم أحد المواطنين لخطبة إحدى الفتيات، وعندما حان وقت (التمليك) حجر عليها ابن عمها فاشتكى الخطيب إلى سمو الأمير سلمان فغضب سموه وقال: هذا لا يجوز. لقد انتهى الحجر نهائياً. وقال: هذه عادة وتقليد بائد لن نسمح به. وقال إذا كانت البنت وأهلها موافقين على الزواج فليس لابن عمها أي سلطة في الأمر. ووجّه بتنفيذ إكمال الزواج، وتم على بركة الله. كما أن إحداهن جلست عانساً بسبب الحجر حتى بلغت سن الأربعين، وعندما بلغ سموه الأمر عبر عن غضبه ورفضه لمثل هذه العادات التي عفا عليها الزمن.
قوة رحيمة
* أيضا من اللفتات التي كان يوجه الأمير من خلالها رسائله أنه جاءه رجل كان يكفل شخصاً وطلب من الأمير سلمان التدخل ليكون هو في حِلّ من أمره، فوجه إليه الأمير سلمان سؤالاً: هل أنت مجبر على كفالته؟ قال إلا. قال إذن فاصبر ودع المحكمة تفصل في القضية، وسيجعل الله خيراً.
* كنا جلوساً في مجلس الأمير سلمان فدخل على سموه وفد من تسعة أشخاص وقدموا شكرهم لسموه لتدخله وعتق أحد رجالهم من القصاص مقابل (8) ملايين ريال، حيث تكفل سموه بجزء منها، فشكره الوفد على مكرمته، فقال لهم: ادعوا لوالدَي ليكون أجر ما صنعت في ميزان حسناتهما. فدعوا لوالديه وانصرفوا.
* من المواقف التي تستدعي التأمل والتوقف عندها حين جاء إلى مجلس سموه مقيم حكم عليه بالسجن سبع سنوات و(500) جلدة لارتكابه جريمة اغتصاب وتصوير فعلته الشنيعة، وطلب تدخل الأمير سلمان للتخفيف عنه. فقال له الأمير سلمان: لا مجال للتدخل في أحكام القضاء. فرد الرجل: إن هذه قضية بسيطة. فغضب الأمير سلمان حتى تغير وجهه وقال للمقيم: هذه المسألة نعدها من أكبر المنكرات، فكيف تقول إنها بسيطة. وطلب سموه التأكد من إجراء الحق بشأن تلك القضية.
* حضر إلى مجلس الأمير سلمان رجل يحمل معروضاً بشأن خلاف بينه وبين آخرين على قطعة أرض، فوجّه سموه بأن يبعد الشخص الآخر كيلومتراً و(300) متر، وتم تشكيل لجنة لتطبيق توجيه الأمير، فوجدوه أبعد من ذلك، فطالب الرجل بإبعاد خصمه أكثر من (2) كيلومتر، فرد عليه الأمير بأن هذا تقرير لجنة وليس لدينا أي زيادة، وما تطالب به لن يكون.
هنا الأمير أنصف المواطن، ولكن حينما وجده طامعاً أوقفه عند حده فاجتمع في كلمته الإنصاف والحزم والحق والقوة والصبر والعزم.
وهناك الكثير من القصص والمواقف الطريفة التي يستفاد من دروسها.. ولكن نكتفي بهذا القدر كنماذج لما يدور في مجلس صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض وهو يستقبل المواطنين والمقيمين ويفصل في شكاواهم ويحل قضاياهم.